عبد القادر الفطواكي
يبدو أن العلاقات المغربية الإسبانية دخلت خلال الأسابيع القليلة الماضية منعطفا جديدا، وذلك على خلفية قبول مدريد استقبال زعيم ميليشيات "البوليساريو" الانفصالية على أراضيها بهوية مزورة، قصد العلاج.
المغرب وفي رد فعل طبيعي، أعرب رسميا عن أسفه للموقف الإسباني المبهم النوايا، باستضافة إبراهيم غالي، المتهم بارتكاب جرائم حرب خطيرة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بأحد مستشفياتها خفية ودون إخبار للمغرب، زيادة على السماح بدخوله التراب الإسباني بهوية مزورة مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول موقف الجارة الإسبانية.
وقالت وزارة الشؤون الخارجية المغربية، إن المملكة تعرب عن إحباطها من هذا الموقف الذي يتنافى مع روح الشراكة وحسن الجوار، والذي يهم قضية أساسية للشعب المغربي ولقواه الحية.
إضافة إلى ذلك استدعت الرباط سفير إسبانيا بالمغرب، لإبلاغه بموقف، وطلب التفسيرات اللازمة بشأن موقف حكومته المجانب للصواب ولروح الشراكة وحسن الجوار، والمتعلق بقضية أساسية للشعب المغربي ولقواه الحية.
لتحليل كل هذه المستجدات وغيرها، نقلنا عددا من الاستفسارات والتساؤلات للدكتور مصطفى أوزير الباحث في العلاقات المغربية الاسبانية والأمريكية اللاتينية بجامعة محمد الخامس، والذي خصنا بهاته الإضاءات خلال هذا الحوار الحصري.
مواطن: ما هي قراءتكم للموقف الإسباني بالسماح لزعيم البوليساريو الدخول بالبلاد بهوية مزورة وسط تكتم إسباني تام؟
-الدكتور مصطفى أوزير: ليس سرا أن كل الحكومات الاسبانية المتعاقبة، دائما ما تلجأ إلى سياسة الكيل بمكيالين في قضية وحدتنا الترابية، للضغط على المغرب لربح مكاسب مرتبطة بملفات الأمن والهجرة أو ما يتعلق بقضايا اقتصادية يرى الجار الشمالي أن الحاجة إليها تستدعي استحضار مفاهيم الشراكة وحسن الجوار والتعاون والتنسيق المشترك في عدد من القضايا، اعتقادا منها أن المغرب لن يتجرأ على الدفاع باستماتة وحزم عن مصالحه ووحدة أراضيه.
ويدخل السماح لزعيم تنظيم البوليساريو العسكري الى الأراضي الاسبانية بغرض الاستشفاء وبهوية مزورة، دون مراعاة لمواقف ومطالب الجانب المغربي، في إطار دأبها على التلويح بورقة هذا النزاع المفتعل كلما كثف المغرب من جهوده للتعريف والدفاع عن قضيته الأولى.
وفي هذا السياق، نعتقد أن الإمعان في الاستهتار بقواعد حسن الجوار والشراكة التي ما فتئت الجارة اسبانيا تتبناها، والتي كان آخرها السماح لإبراهيم غالي كجلاد وأحد كبار القيادات المسؤولة في تنظيم البوليساريو على قتل المئات من الأبرياء المدنيين من مختلف الجنسيات، بما في ذلك ما يربو على الثلاثمائة ضحية إسباني، نهاية السبعينات ومنتصف الثمانينات، على أراضي الصحراء المغربية وفي عرض البحر، تصرف مجانب للأعراف الدبلوماسية وللقانون الدولي والقضاء الإسباني ذو الولاية الكونية في ما يختص بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، بالتستر على متهم بعمليات قتل واختطاف واختفاء قسري واغتصاب، تارة بدافع الانتماء أو الطابع السادي لشخصية المتهم أو إرضاءا لرؤسائه في قصر المرادية.
فإجرام إبراهيم غالي، أمر تعلمه جيدا الحكومة الاسبانية، بل وسبق لها أن كرمت ضحايا هذا التنظيم الإرهابي، وتعترف للجمعية الكنارية لضحايا الإرهاب بالشخصية القانونية وبحق تمثيل ضحايا البوليساريو المذكورين سالفا.
فإجرام إبراهيم غالي، أمر تعلمه جيدا الحكومة الاسبانية، بل وسبق لها أن كرمت ضحايا هذا التنظيم الإرهابي، وتعترف للجمعية الكنارية لضحايا الإرهاب بالشخصية القانونية وبحق تمثيل ضحايا البوليساريو المذكورين سالفا.
وبالمحصلة، فإن دخول متهم متابع من طرف المحكمة الوطنية الاسبانية لأراضي الجار الشمالي منذ 2016، لا يعدو كونه عملية قذرة حيكت خيوطها بين الحكومة الاسبانية والدولة الحاضنة للمخيمات، قصد إرباك حسابات المغرب في علاقة بعديد الانتصارات الدبلوماسية المسجلة خلال الخمس سنوات الأخيرة.
- المغرب استدعى السفير الإسباني بالرباط للاستفسار كما أصدرت الخارجية بلاغا بلاغا قوية، تلاه تأكيد بوريطة أنه لازال ينتظر رد الجارة الشمالية.. ما الوضع الذي ستصبح عليه العلاقات الثنائية مستقبلا في تقديركم؟
يصعب التكهن بمستقبل العلاقات الثنائية بين المملكة المغربية والمملكة الاسبانية بعد تعرضها لرجات قوية، كادت أن تخلق أزمات حادة بين الجانبين، حول قضية شكلت للمغرب مسألة وجودية تتعلق ببسط السيادة على كافة ترابه الوطني، بتأكيد التاريخ والجغرافيا وانصهار ثقافات الجماعات المشكلة للمجتمع المغربي منذ قرون، بينما لا تعدو المسألة بالنسبة للجار الشمالي سوى حنين لماضيه الاستعماري الأليم، الذي كان من نتائجه المباشرة العمل على خلق بؤرة توثر دائمة على التراب المغربي لفرملة مسار تنميته وفعله على المستوى القاري والدولي.
وهما تجدر الإشارة أن هذا المخطط أعطى أكله إلى حدود اعتلاء الملك محمد السادس العرش، حيث سيقبل المغرب الجديد على تحديات غير مسبوقة في نظرته للأولويات والقضايا التي يجب أن تسترعي اهتمام البلد بشكل كاف، دون ترك الكرسي فارغا على كافة الأصعدة.
أصبح المغرب مبادرا في العديد من القضايا بما في ذلك قضية مغربية صحرائه، حيث قدم مقترحا جريئا، يقضي بمنح حكم ذاتي لساكنة الصحراء لتدبير أمورهم بأنفسهم، بينما بقيت أطراف الجوار في ركود سياسي واقتصادي شل كل مرافق دولة الجزائر، وزاد الوضع غليانا بمخيمات تندوف.
أمام هذا الوضع، أصبحت الجزائر تتودد لنيل ثقة الجارة الشمالية، لوقف الانطلاقة المكوكية للمغرب نحو التقدم والنماء وإحراز مكاسب سياسية هامة في علاقة بملف وحدتنا الترابية، وكذا تعزيز حضور المملكة في القارة الافريقية وأمريكا اللاتينية ونزع اعتراف ثمين من الولايات المتحدة الامريكية بمغربية الصحراء، كان له الأثر الكبير في قلب كل الموازين في المنطقة.
وما محاولة إسبانيا اليائسة للتنبيه إلى مكانتها المركزية في النزاع باستقبال زعيم تنظيم البوليساريو، إلا تصرف غير مبرر لإيقاف إرادة المغرب لتغيير شروط المعادلة بخصوص قضية وحدته الترابية وفتح مجالات جديدة للتعاون دوليا بعيدا عن المحيط التقليدي الذي دائما ما كان يراوغنا ويتلكأ في دعم قضايانا العادلة في المنتظم الدولي.
لهذا أعتقد أن المغرب عازم على الخوض حتى النهاية في أمر طلب التوضيح لسببين إثنين:
أولهما، كونه يدافع عن أحقيته التاريخية والقانونية في السيادة على ترابه الوطني كاملا غير منقوص، وثانيهما أن ما أقدمت عليه إسبانيا يعد فعلا أخرقا في مجال العلاقات الدبلوماسية بين الدول، إذ لا يعقل أن تستقبل دولة متهما بارتكاب انتهاكات جسيمة على أراضيها برحابة صدر، مع وجود قضية رائجة أمام محكمتها الوطنية ضده، وكذا حفظا لكرامة الضحايا من مواطني المغرب الذين ما زالوا ينتظرون أن يقول القضاء الإسباني كلمته في الدعوى المرفوعة أمامه.
فتعليل إسبانيا لإقدامها على السماح بدخول إبراهيم غالي لأراضيها لدوافع إنسانية، وتصريح خارجيتها بإمكانية تقديمه للقضاء حينما يقرر ذلك، ينم عن تخبط كبير في الموقف الإسباني الذي لم يكن نابعا من تشريعاتها الوطنية ولا من القانون والشرعية الدولية، بل استجابة لجنيرالات الجزائر في صفقة خاسرة لإحراج المغرب.
والمأمول أن تستجيب إسبانيا لنداءات الضحايا بتقديم إبراهيم غالي للقضاء لمحاكمته على ما اقترف من انتهاكات جسيمة في حق الضحايا والعمل على جبر ضررهم وكشف حقيقة ما جرى ليعرف العالم ما يحاك ضد الإنسانية بمخيمات محكمة الإغلاق بحراسة الجيش الجزائري لئلا تتسرب أنات الضحايا والمعتقلين والمعذبين في مراكز احتجاز غير نظامية لا تخضع لرادار المراقبة الدولية إلى العلن.
وفي تقديري، أن أي تعاون مستقبلي مغربي مع اسبانيا، في مجال الهجرة والأمن ومكافحة الإرهاب وغير ها من القضايا الشاملة، سيكون مرهونا بانخراط إسبانيا باحترام القانون وترك المجال لقضائها للتحقيق في جرائم القتل خارج نطاق القانون والاختفاءات القسرية والاختطافات والتعذيب والاغتصاب وغيرها، وهي دعاوى كان قد رفعها ضحايا أمام المحكمة الوطنية ضد إبراهيم غالي وقياديين اخرين بتنظيم البوليساريو العسكري.
فالتلويح بورقة التعاون مع القضاء، في تغيير مفاجئ لخطاب الخارجية الإسبانية، ينم عن صلابة وحزم في الموقف المغربي الداعي الى تقديم المتهم الى العدالة ودعوة اسبانيا الى الانخراط في علاقات تعاون ندية تحكمها مصلحة الطرفين معا دون غيرهما، لكي يعيد المغرب النظر في اجندته المتعلقة بالعلاقات مع الجار الشمالي، بما فيذلك تنظيم اللقاء الرفيع المستوى الذي لم يكتب له الانعقاد بفعل صبيانية بعض أطراف الطيف السياسي الاسباني، الذي لا يرى في المغرب سوى حديقة خلفية، ورغبة اسبانيا في بناء حوار مستمر لحلحلة المشاكل العالقة.
- ما تعليقكم على السياسة الهجوم الجديدة التي أصبح المغرب ينهجها مؤخرا للدفاع عن قضيته الوطنية وهل سيكون هذا المشكل بداية وضوح لموقف الجارة الشمالية فيما يخص قضية وحدتنا الترابية؟
أولا، فبعد أن دشن المغرب انتقالا ديمقراطيا ناجحا بجميع المقاييس، واستطاع التغلب على ماضيه الموسوم بسنوات الرصاص وتصالح مع ذاته، لم يكن ليفعل ذلك دون تسطير أهداف استراتيجية لتعضيد هذا التغيير ودعمه حتى ينعكس على مختلف الفرقاء من حاكمين ومحكومين.
ومن الغايات المثلى لهذا التغيير تبني سياسة هجومية للدفاع عن قضاياه المصيرية من قبيل الترافع عن وحدته الترابية في جميع المنتديات وعلى مختلف المستويات، إن كانت مؤسساتية أوبرلمانية أو عبر منظمات المجتمع، وهو الشيء الذي أكسب المغرب مناعة ضد تقلبات منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط فيما بات يعرف ب "الربيع العربي"، بل واقتحم فضاءات كانت تعد في خانة الشر المستطير لمصالح المغرب، كالانضمام للاتحاد الإفريقي بشكل قوي، وترسيخ دعائم الريادة قاريا وكذا تدشين علاقات دبلوماسية قوية مع العديد من دول أمريكا اللاتينية، كانت إلى الأمس القريب من أقوى الداعمين لتنظيم البوليساريو.
ثانيا، مكانة المملكة المغربية على المستوى الدولي، فتحت لها الكثير من آفاق التعاون والدعم سياسيا واقتصاديا وكذا على مستوى الدعم التقني، بفضل حكمة وتبصر الملك محمد السادس وسياسته الرشيدة في تدبير قضايا البلد بنظرة ثاقبة وحزم في حالة تجرأ بعض أعضاء المنتظم الدولي على المس من سلامة المغرب ووحدة أراضيه، وهو ما حدث مثلا خلال تفكيك مخيم اكديم إزيك، ودور اسبانيا والجزائر في تأجيج الوضع في المنطقة، ورد المغرب الفعال بتنمية المنطقة وجعلها منطقة جذب وبوابة للعمق الافريقي الواعد اقتصاديا.
فالمملكة المغربية، دأبت منذ عقدين على القيام بالأفعال عوض ردودها، وهو ما أكسبها دعما دوليا متناميا في علاقة بقضية وحدتنا الترابية، ولعل افتتاح عشرات التمثيليات الدبلوماسية بمدينتي العيون والداخلة لخير دليل على حيوية ودينامية ديبلوماسيتنا.
فاعتراض المغرب على استقبال إبراهيم غالي بإسبانيا، لم يكن إلا حلقة من حلقات علو كعب التعامل الدبلوماسي الفعال والحازم مع كل ما يستجد بخصوص وحدتنا الترابية. ولا أعتقد أن المغرب سيرجع إلى الخلف في الدفاع عن قضاياه الرئيسية وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، ولعل رده القوي على التربص الألماني بنا يوضح بشكل جلي صرامة وجدية الموقف المغربي الرسمي فيما يتعلق بمغربية صحرائنا، مدعوما بكل مكونات الشعب المغربي بمختلف مشاربها الفكرية.
ولا غرو أن المملكة الإسبانية ستعيد تقييم علاقاتها مع المغرب بشكل شامل، مستحضرة عوامل الربح والخسارة إزاء أي تصرف أجوف قد يعصف بمصالحها الحيوية مع جارها الجنوبي في القادم من الأيام.
حوار من إنجاز: عبدالقادر الفطواكي
05 décembre 2022 - 17:00
05 août 2022 - 10:00
29 juin 2021 - 17:30
05 mai 2021 - 11:30
15 mars 2021 - 22:01
18 novembre 2024 - 10:00
26 novembre 2024 - 16:00