بقلم الدكتور : عمر لمغيبشي
لم يكن خطاب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أمام البرلمان يوم الثلاثاء 30 دجنبر 2025 مجرد محطة بروتوكولية عابرة، بل تحول، بفعل ما غاب عنه أكثر مما حضر فيه، إلى لحظة سياسية مكثفة الدلالات. فالرئيس الذي اعتاد توظيف المغرب وقضية الصحراء المغربية بوصفهما عنصرين ثابتين في خطابه السياسي، اختار هذه المرة أن يصمت، صمتا بدا مدروسا، لا يمكن تفسيره بالسهو أو الارتجال. هذا الغياب غير المسبوق فتح المجال أمام تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت الجزائر بصدد مراجعة تموضعها الإقليمي، أم أنها تكتفي بإعادة ترتيب أدواتها الخطابية وفق إكراهات المرحلة.
ففي السياسة، لا يكون الصمت دائماً علامة حياد، بل قد يتحول إلى أداة استراتيجية بحد ذاته. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فهم خطاب تبون إلا ضمن سياق أوسع يتعلق بحسابات الكلفة والمنفعة، وبحدود فعالية التصعيد، وبالتحولات التي أعادت تشكيل قواعد اللعبة في المنطقة المغاربية.
أولا: الصمت كإعادة ضبط للأداة الخطابية وإدارة للكلفة السياسية
اعتمد النظام الجزائري، لسنوات طويلة، على خطاب تصعيدي تجاه المغرب، جعل من قضية الصحراء محوراً دائماً للتعبئة السياسية والدبلوماسية. وقد شكل هذا الخطاب جزءا من آلية أوسع لإدارة الشرعية الداخلية، حيث جرى توظيف الصراع الخارجي لتأجيل الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية، ولإعادة إنتاج صورة الدولة المحاصرة التي تحتاج إلى الالتفاف حول السلطة. غير أن هذه الأداة، مع مرور الوقت، بدأت تفقد فعاليتها.
فالتكرار أفرغ الخطاب من قدرته على التأثير، كما أن التحولات الدولية قلصت من هامش المناورة الذي كان يتيحه التصعيد اللفظي. لم يعد الهجوم المستمر على المغرب يغير مواقف الفاعلين الدوليين، بل على العكس، بات يرسخ صورة نزاع جامد، تدار أطرافه بمنطق إيديولوجي لا يواكب التحولات الواقعية. ومع اتساع دائرة الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي، تحول الخطاب الجزائري من أداة ضغط إلى عبء دبلوماسي متزايد.
داخليا، لم يعد الرأي العام الجزائري يتفاعل مع لغة المواجهة بالزخم نفسه. فالأولويات المعيشية، ومطالب التنمية، وتآكل الثقة في الخطاب الرسمي، جعلت من التصعيد الخارجي سلاحا محدود الجدوى، بل محفوفا بالمخاطر إذا ما قورن بحجم التحديات الداخلية.
وفي هذا السياق، يبدو الصمت خيارا عقلانيا لإدارة الكلفة، وليس تراجعا عن الموقف. إنه تعليق مؤقت للأداة حين تتجاوز كلفتها مردودها.
إن لغة “الجوار” التي استخدمت في خطاب تبون تندرج ضمن هذا الإطار. فهي تسمح بإيصال رسالة تهدئة دون تقديم تنازلات سياسية، وتمنح هامشا لإعادة التموضع دون إعلان مراجعة صريحة. الصمت هنا لا يعني المصالحة، بل يعني التحكم في الإيقاع، واختيار لحظة الكلام بدلا من الخضوع لإكراه التكرار.
ثانيا: الحسابات الإقليمية والدولية وحدود التحول الممكن
لا يمكن فصل هذا التحول الخطابي عن البيئة الإقليمية والدولية التي تتحرك فيها الجزائر اليوم. فشمال إفريقيا لم يعد فضاء مغلقا على صراعاته التقليدية، بل أصبح جزءا من توازنات أوسع تتعلق بالطاقة، والأمن، والاستقرار. وفي هذا السياق، استطاع المغرب أن يعيد تقديم نفسه كشريك استراتيجي موثوق، وأن يربط ملف الصحراء بمشاريع تنموية وأمنية تحظى بدعم دولي متزايد. وهذا التحول في موازين القوة الرمزية وضع الجزائر أمام واقع جديد، لم يعد يسمح بخطاب المواجهة المفتوحة دون كلفة. فالعالم اليوم أقل تسامحا مع النزاعات الممتدة، وأكثر ميلا إلى دعم الحلول الواقعية. ومن هنا، يصبح الصمت رسالة للخارج بقدر ما هو رسالة للداخل، مفادها أن الجزائر قادرة على التكيف مع السياق الدولي، حتى وإن لم تغير جوهر خياراتها.
أما التركيز على القضية الفلسطينية، فيندرج ضمن منطق التعويض الرمزي. فهي قضية ذات إجماع واسع، تسمح بالحفاظ على حضور أخلاقي وسياسي دون الدخول في سجالات إقليمية معقدة. غير أن هذا الخيار، رغم رمزيته، يكشف أيضا حدود القدرة على إنتاج سردية استراتيجية جديدة تتجاوز القضايا التقليدية.
كل ذلك يجعل من الصعب اعتبار صمت الرئيس الجزائري مؤشرا على تحول استراتيجي عميق. فالدعم الجزائري للبوليساريو لم يتغير، كما أن البنية الذهنية التي تحكم مقاربة النظام للعلاقات مع المغرب لا تزال قائمة. ولعل ما تغير هو أسلوب التعبير، لا جوهر الرؤية.
إن صمت عبد المجيد تبون عن المغرب وقضية الصحراء لا يمكن أن يكون تحولا جذريا في السياسة الجزائرية، بقدر ما يكشف عن إعادة تموضع تكتيكية فرضتها اعتبارات داخلية وتحولات إقليمية ودولية متسارعة. إننا أمام صمت وظيفي، يستخدم لإدارة المرحلة وتقليص الكلفة، لا لإعادة صياغة الخيارات الاستراتيجية.
وسيظل هذا الصمت قابلا للكسر متى تغيرت المعطيات أو استدعي من جديد منطق التعبئة. أما التحول الحقيقي، إن حدث، فلن يقاس بغياب الكلمات، بل بتغير السياسات، وبالانتقال من إدارة الصراع الرمزي إلى بناء أفق إقليمي قائم على العقلانية والمصالح المشتركة، وهو أفق لم تتبلور شروطه بعد.
27 novembre 2025 - 10:00
24 novembre 2025 - 11:00
11 août 2025 - 14:00
23 juillet 2025 - 16:00
11 juillet 2025 - 19:00
22 décembre 2025 - 10:00