بقلم: د. عمر لمغيبشي
ونحن على بعد أيام قليلة من انعقاد الندوة العلمية “السياسي والمؤرخ: من يصنع التاريخ؟”، التي تنظمها الجمعية المغربية للبحث التاريخي أيام 27-28-29 نونبر 2025 برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يصبح من الضروري إعادة قراءة العلاقة المعقدة بين التاريخ والسياسة في المغرب. هذه العلاقة لم تعد مجرد أداة تحليلية أكاديمية، بل تمثل قلبا نابضا لفهم كيفية تشكل الدولة المغربية الحديثة، وكيفية صياغة نخبتها للسرديات التاريخية بما يضمن شرعيتها وتوجيه المجتمع نحو رؤية متماسكة للماضي والحاضر.
ولذلك فمنذ مطلع الحماية الفرنسية أضحى التاريخ أداة للصراع على الشرعية، وإعادة تعريف الهوية، وترسيخ الخيارات السياسية، لا مجرد وثائق أو سرديات جامدة. وقد لاحظ الباحثون أن الدولة المغربية، على خلاف نماذج أخرى في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بنت شرعيتها عبر علاقة مركبة مع ماضيها؛ علاقة تتسم بـ”استمرارية مكيفة” على حد تعبير جاك بيرك: علاقة تجمع بين احترام الذاكرة التقليدية والتفاعل مع الحداثة دون إحداث قطيعة كلية. ولهذا الغرض، فإن تحليل هذه التفاعلات التاريخية والسياسية عبر ثلاث لحظات حاسمة: حقبة الحماية، ومرحلة ما بعد الاستقلال، وفترة الإصلاحات الدستورية والحقوقية، من خلال الاستعانة بالأبحاث الوطنية والغربية، وأعمال مؤرخين بارزين مثل عبد الله العروي، ودانييل ريفيه، وبيير فيرموران، مع اعتماد منظور المؤرخ المنخرط الذي يقرأ الأرشيف في ضوء أسئلة الحاضر أمر لا بد منه لمعرفة التشابكات والتناقضات التي يعرفها هذا الموضوع.
التاريخ كأداة للهيمنة: الحماية وبناء خطاب الدولة الاستعمارية
استعملت سلطات الحماية الفرنسية التاريخ كوسيلة استراتيجية للتحكم في المجال السياسي. فقد صاغ المقيم العام ليوطي خطابا فصل فيه “المغرب النافع” عن “المغرب غير النافع”، وميز بين البربر والعرب، وهو ما انعكس في الظهير البربري. هذا التقسيم لم يكن مجرد سياسة إدارية، بل كان أداة لتوظيف التاريخ في إعادة تشكيل البنية الاجتماعية بما يخدم مشروع السيطرة الاستعمارية.
وقد حلل دانييل ريفيه هذا الاستخدام باعتباره “هندسة للذاكرة”، بحيث لم يعد التاريخ مجرد معرفة، بل أصبح وسيلة لإضفاء شرعية على الوجود الأجنبي، وكأنه امتداد طبيعي لإرث إمبراطوري سابق.
وفي المقابل، أعادت الحركة الوطنية كتابة التاريخ الوطني على أسس مضادة، مركزة على وحدة الأمة وشرعية السلطان. ولعل أعمال علال الفاسي مثال بارز على هذا الاسترجاع، إذ وظفت الذاكرة الوطنية كوسيلة لمقاومة السردية الاستعمارية ولتعزيز شعور بالاستقلالية التاريخية.
التاريخ والشرعية السياسية بعد الاستقلال: الدولة الوطنية والمركزية
مع بزوغ فجر الاستقلال، دخل المغرب مرحلة جديدة أصبحت فيها كتابة التاريخ أداة محورية لبناء الشرعية السياسية. فالدولة الناشئة كانت بحاجة إلى خطاب يربط بين الماضي والدولة الحديثة، وفق رؤية عبد الله العروي في الإيديولوجيا العربية المعاصرة الذي اعتبر التاريخ رصيدا رمزيا يبرر مركزية المخزن وقدرته على الاستمرارية.
ونتيجة فذلك، تكونت ثلاثة خطوط سردية رئيسية:
1. سردية الحركة الوطنية: تسلط الضوء على نضال الشعب ضد الاستعمار ودور الأحزاب في بناء الدولة.
2. السردية المخزنية: تؤكد استمرارية الدولة والشرعية الملكية كوحدة ضامنة للوحدة الترابية.
3. السردية التقنية للدولة الحديثة: تركز على التحديث، وبناء الإدارة، وإرساء المؤسسات.
وقد لاحظ بيير فيرموران أن التوتر بين هذه السرديات كان محور الصراع السياسي، حيث سعت كل نخبة إلى توظيف التاريخ لتبرير برنامجها السياسي.
وقد لعبت لجان التعليم والإعلام دورا محوريا في توجيه الذاكرة الرسمية، إذ أظهرت دراسة محمد العربي الخطابي أن المدرسة أصبحت أداة لإنتاج سردية وطنية موحدة، تعلي من قيمة الملكية والمقاومة، مع تقليص أدوار بعض الفاعلين أو تجاهل لحظات حرجة.
التاريخ والسياسات العمومية: الأرشيف، الذاكرة، والدولة
مع بداية التسعينيات، تشكلت علاقة جديدة بين التاريخ والسياسة نتيجة تحولات داخلية وخارجية، من أبرزها:
-تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أعادت قراءة فترة “سنوات الرصاص”.
-ارتفاع مطلب الحق في الذاكرة وفتح الأرشيف، كما أشار إليه محمد الناجي ووجدان بن عيسى.
-توسع الدراسات ما بعد الاستعمارية، خاصة أعمال سوزان ميلر حول الجنوب الشرقي.
أدى ذلك إلى تحول التاريخ من أداة للشرعية إلى فضاء للحوار السياسي، حيث أصبح من الممكن مقارنة السرديات المختلفة والتفاعل معها نقديا، بعيدا عن سيطرة الدولة المطلقة على الحقيقة التاريخية. وقد اعتبر العروي أن المغرب دخل بذلك “زمن التاريخ النقدي”، وهو تاريخ يقوم على المساءلة والتحقق، بدل التبرير السياسي.
المؤرخ المغربي: بين الالتزام والمسافة النقدية
تواجه اليوم وضعية المؤرخ المغربي تحديات مركبة، فهو يعمل بين أرشيفات متنوعة في الرباط، وباريس، ومدريد ولشبونة، ويتعامل مع موضوعات حساسة مثل الاستعمار، والصحراء، والذاكرة الأمازيغية، والحركات الاجتماعية.
دعا عبد الله العروي، ولاحقا عبد الرحيم المودن، إلى الحفاظ على مسافة نقدية بين المؤرخ والدولة، مع الاعتراف بأن المؤرخ لا يكتب من فراغ، بل من داخل مجتمع سياسي حي.
أما منظور المؤرخ المنخرط، المستوحى من بول ريكور وبيير نورا، فيجمع بين الالتزام الاجتماعي والحفاظ على استقلالية البحث العلمي، لتأكيد حق المجتمع في ذاكرة موثقة وشفا
تُظهر التجربة المغربية أن التاريخ لم يكن يوما مجرد نشاط أكاديمي محايد، بل أداة لصناعة الدولة وبناء المجال السياسي. وقد ظل التاريخ من الحقبة الاستعمارية، مرورا بزمن الاستقلال، ووصولا إلى مرحلة المصالحة وإعادة كتابة الذاكرة، وسيلة لإنتاج المعنى وصياغة الهوية وتحديد موقع الدولة داخل محيطها.
واليوم، يشهد المغرب مرحلة جديدة نحو تحرير التاريخ من وظيفته التبريرية، والاعتراف به كحقل نقدي لفهم تعقيدات الحاضر. فالتاريخ، حين يقرأ خارج سياقات الاستعمال السياسي الضيق، يصبح عنصرا أساسيا من عناصر المواطنة، وشرطا لبناء مستقبل قائم على الحقيقة بدلا من الأسطورة.
إن الرهان الحقيقي يكمن في الانتقال من “التاريخ من أجل الدولة” إلى “التاريخ من أجل المجتمع”، عبر فتح الأرشيفات، وتشجيع البحث الجامعي، وتعزيز ثقافة النقاش العلمي، ودعم استقلالية المؤرخ المغربي كحارس للذاكرة الجماعية ومسؤول أمامها.
11 août 2025 - 14:00
23 juillet 2025 - 16:00
11 juillet 2025 - 19:00
24 juin 2025 - 08:00
16 juin 2025 - 12:00