عبد القادر الفطواكي
في الوقت الذي يخوض فيه المغرب واحدة من أكثر المعارك الدبلوماسية حساسية في تاريخه الحديث، ويتقدم بثبات نحو ترسيخ الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، يطلّ علينا بين الحين والآخر بعض المنتخبين بخطابات عبثية تُفرغ الفعل السياسي والدبلوماسي من مضمونه الجاد، وتحوله إلى مشهد فولكلوري يُسيء القضايا الوطنية للبلاد أكثر مما ينفعها.
آخر هذه “الخرجات" كانت تصريحات البرلماني ورئيس جماعة القصر الكبير محمد السيمو، الذي قدّم للعالم اكتشافا جديدا في العلاقات الدولية أطلق عليه -عن غير قصد ربما- "دبلوماسية البيصارة". فبحسب رواية السيد النائب البرلماني المحترم، يمكن أن يُحسم موقف دولة ما من قضية الصحراء المغربية في مطبخ منزلي، عبر طبق شعبي لا يتجاوز ثمنه عشر درهمًا. إذ ما إن تذوّق السفير طبق “البيصارة”، حتى تغيّر موقف بلاده وأعلن دعم الوحدة الترابية للمملكة. هكذا، ببساطة مدهشة، دون مفاوضات أو مشاورات أو تراكم جهد دبلوماسي يمتد لعقود.
لكن الحقيقة مختلفة. فالدبلوماسية المغربية، كما أرساها الملك الراحل الحسن الثاني ويواصل نهجها الملك محمد السادس، ليست وليدة صدفة أو مائدة طعام، بل ثمرة عمل مؤسساتي متراكم تقوده وزارة الخارجية باحتراف ومسؤولية، وتتحرك ضمن رؤية ملكية واضحة تعتبر الدفاع عن الوحدة الترابية قضية وجود لا خيارًا سياسيا. هذا ليس طرفة. إنه استخفاف بذاكرة دولة، وبنضال مؤسساتها، وبعمل رجالها ونسائها الذين يحملون على عاتقهم واجهة الدفاع عن الوحدة الترابية بجدية ومسؤولية.
السؤال هنا ليس عن "البيصارة" في حدّ ذاتها، بل عن الوعي السياسي الغائب، هل يدرك هؤلاء أن كل تصريح يخرج من فم مسؤول منتخب يمكن أن يُبثّ دوليًا في ثوان معدودات ؟ هل يعلمون أن الكلمات، في عالم الدبلوماسية، تُحسب بميزان الدول لا بميزان "الطناجر" و"الطباسل" ؟
إن الدبلوماسية ليست نكتة، ولا مجالا للتباهي الشخصي، ولا منبرًا للبطولات الفردية. فلا يجب على أي كان منصبه أن يحول قضية سيادية شهدت تحولات عميقة بفضل عمل الدبلوماسية المغربية بقيادة الملك محمد السادس إلى مادة للسخرية والتهكم. إنها أداة دولة ذات سيادة، تتعامل بمنهج وبلغة دقيقة تُوزن فيها كل كلمة بميزان الذهب. فقرارات مجلس الأمن، ومنها القرار 2797، لم تكن ثمرة حفنة "فول" أو “ملعقة كمون” وجرعات "زيت العود"، بل نتاج استراتيجية متكاملة اشتغلت على تجميع الدعم الدولي، وترسيخ مبادرة الحكم الذاتي كخيار واقعي وعقلاني.
عندما يحول نائب برلماني اجتماعا هاما للجنة القطاعات الإنتاجية بمجلس النواب خصص لمناقشة الميزانية الفرعية لوزارة السياحة لـ"تفريق اللغا" وسرد "نكت" باهتة، بل ويختزل هذا الجهد التاريخي الديبلوماسي في “بيصارة”، فهو لا يمزح. إنه يسيء — عن قصد أو عن جهل — إلى صورة بلد يُنظر إليه اليوم كفاعل استراتيجي يحظى بالاحترام الدولي. مثل هذه التصريحات لا تُضحك، بل تُضعف الثقة في النخبة، وتقدّم للعالم صورة سطحية عن مغربٍ تُدار فيه القضايا الكبرى على موائد الطعام لا في مؤسسات الدولة.
إن الدبلوماسية المغربية لا تحتاج إلى “تسحينات انتخابية بهلوانية”، بل إلى دعمٍ بالصمت المسؤول، بالكلمة المحسوبة، وبالوعي بأن كل تصريح في البرلمان أو أمام الكاميرات قد يُتداول دوليًا خلال دقائق.
ثم إن كان السيد النائب يؤمن فعلًا بـ“قوة البيصارة الخارقة”، فالأجدر أن يختبرها داخل الوطن: لدينا طرقات تنهار، ومدارس تئن، ومستشفيات عاجزة، وأسعار تثقل كاهل المواطنين، وبرلمان يغيب عنه نصف أعضائه أثناء الجلسات. فإذا كانت وصفة "بيصارته" الساحرة قادرة على إقناع سفير بعيد، فلتقنع أولًا المسؤولين بالإحساس بنبض هذا الشعب، ولتُقنع المنتخبين بأن خدمة الوطن لا تكون بالتصريحات الطريفة، بل بالعمل الصامت والمسؤول.
"سي سيمو"... القضية الوطنية لا تختزل في طبق، ولا تُختصر في طرفة. إنها قسم وطني من يجهله لا يستحق أن ينطق باسمه. إنها مسؤولية تاريخية، ومن لا يُدرك ذلك، فالصمت أبلغ تعبير عن الوطنية.
03 novembre 2025 - 17:00
20 octobre 2025 - 20:00
03 octobre 2025 - 09:40
29 septembre 2025 - 20:00
21 septembre 2025 - 10:00
عندكم 2 دقايق03 novembre 2025 - 17:00
31 octobre 2025 - 23:00