عبد القادر الفطواكي
لم تكن فاجعة آسفي مجرد حادث عرضي أو قضاء وقدرا معزولا، بل جاءت جراء تداخل معقد بين تحولات مناخية متسارعة وتدبير بشري "فاشل" لم يواكب إيقاع هذه التحولات. فما حدث لم يكن سوى لحظة كاشفة، أزاحت الستار عن حقيقة مؤلمة مفادها أن الكوارث الطبيعية لا تتحول إلى مآسٍ إنسانية إلا حين تصادف مدينة فقدت ذاكرتها، وهشاشة عمرانية لم تحصن نفسها ضد الأسوأ.
ولعل في اسم آسفي نفسه ما يكفي من الدلالة. فالمؤرخ أبو عبيد الله البكري يشير صراحة إلى أن اسم المدينة مشتق من الكلمة الأمازيغية “أسيف”، أي المجرى المائي المؤقت. وفعلاً، لا يزال يخترق المدينة واد يُعرف بـ"واد الشعبة"، كان يؤدي منذ قرون وظيفته الطبيعية في تصريف المياه نحو المحيط الأطلسي. غير أن المدينة، مع توالي السنين، تعاملت مع واديها كما لو كان أثرًا من الماضي، لا حقيقة جيومورفولوجية حية، فكان أن نسي الإنسان ما حفظه الاسم والتاريخ.
من الناحية العلمية، يضع خبراء المناخ سيول آسفي ضمن نمط مناخي عالمي جديد، لم تعد فيه الأمطار منتظمة وممتدة زمنيًا، بل تحولت إلى تساقطات قصيرة المدة وشديدة الغزارة. هذه التحولات ترتبط بتغير دينامية الغلاف الجوي، وتراجع تأثير المرتفع الآزوري، وظهور منخفضات جوية غير مستقرة يصعب التنبؤ بمسارها، ما يؤدي إلى فيضانات فجائية تفوق قدرة الأودية وشبكات تصريف المياه على الاستيعاب. وقد أكدت السلطات المحلية بإقليم آسفي أن التساقطات الرعدية الأخيرة بلغت حوالي 37 ملم في أقل من ساعة واحدة، وهو رقم كافٍ لاختبار جاهزية أي مدينة.
غير أن السؤال الجوهري لا يكمن في كم نزل من المطر، بل في كيف استقبلته المدينة. لماذا تحولت مياه السماء إلى سيول أغرقت وسط المدينة العتيقة بدل أن تسلك طريقها الطبيعي نحو بحر "حاضرة المحيط"؟ ولماذا تركزت الخسائر في مناطق بعينها؟ هنا يتراجع العامل الطبيعي خطوة إلى الخلف، ليفسح المجال أمام مساءلة أيادي التدبير البشري.
ففعاليات من المجتمع المدني تستحضر ذاكرة قريبة، تؤكد أن آسفي شهدت في منتصف تسعينيات القرن الماضي تساقطات مطرية أكثر غزارة، دون أن تُسجَّل آنذاك وفيات أو حالات فقدان مماثلة. ما يعزز فرضية أن المشكلة لم تكن في المطر وحده، بل في القرارات التي أعادت تشكيل علاقة المدينة بواديها. وعلى رأس هذه القرارات، إغلاق سد سيدي عبد الرحمان، الذي كان يشكل خزانًا طبيعيًا لمياه الأمطار، ويساهم في خفض صبيب وادي الشعبة، مقلصًا من خطر الفيضانات.
ويتعزز هذا الطرح مع تساؤلات مشروعة حول مدى مطابقة أشغال تهيئة ساحة سيدي أبو الذهب، المنجزة من طرف المجلس الإقليمي، لدفتر التحملات، ومدى احترامها لمسارات الجريان الطبيعي للمياه. فهل استُحضرت معطيات المخاطر الهيدرولوجية؟ أم أن منطق التهيئة الجمالية غلب مرة أخرى على منطق السلامة الوقائية؟.
ولا يمكن عزل كل ذلك عن المسار المتعثر لبرامج التأهيل الحضري التي عرفتها المدينة. ففي سنة 2005 استفادت أغلب المدن المغربية من برامج شاملة همّت الطرق وشبكات التطهير السائل، بينما ظلت آسفي تراكم التأخر. ثم جاء برنامج تأهيل المدن العتيقة سنة 2015 ليشمل حواضر تاريخية عديدة، ويُقصي في المقابل المدينة العتيقة لآسفي، رغم هشاشتها العمرانية. أما برنامج التأهيل الحضري المصادق عليه سنة 2019، فقد ظل حبيس “البلوكاج” بين المجلس الجماعي، والعمالة، والولاية، والوكالة الحضرية، لتبقى المدينة معلقة بين المؤسسات، بلا قرار حاسم ولا تنزيل فعلي، رغم الإعلان عن استئناف الأشغال بداية السنة الجارية.
هذا التراكم من التأخير والارتباك لم يكن مجرد خلل إداري، بل تحول مع الزمن إلى عامل بنيوي خطير، زاد من هشاشة المدينة أمام أول اختبار مناخي قاسٍ للغاية. فحين تُهمل الذاكرة الطبيعية للمدينة، ويُقصى الوادي من الحسابات، وتُعلّق المشاريع بين المكاتب والمصالح والحسابات الانتخابوية الضيقة، يصبح المطر حدثًا مرعبًا بدل أن يكون نعمة.
إن فاجعة آسفي، في جوهرها، ليست صراعا بين الإنسان والطبيعة، بل نتيجة اختلال في ميزان الاستعداد والوقاية. فغضب الطبيعة قد يكون الشرارة، لكن التقصير البشري هو ما يحولها إلى كارثة. وربما كان الدرس الأبلغ أن مدينة اسمها “أسيف” لا يمكنها أن تنجو، ما دامت تدير ظهرها لواديها، وتبني مستقبلها كما لو أن الماء لن يعود يومًا ليطالب بمساره.
06 décembre 2025 - 20:00
18 novembre 2025 - 14:00
10 novembre 2025 - 11:00
03 novembre 2025 - 17:00
20 octobre 2025 - 20:00
عندكم 2 دقايق