في خضم التحولات المتسارعة التي تعصف بأوروبا، وبين صعود خطابات اليمين المتطرف وتراجع خطاب التعايش والانفتاح، يجد المهاجر المغربي نفسه عالقًا بين مطرقة العنصرية وسندان الإهمال السياسي، في بلدان الاستقبال كما في بلده الأم.
لم يعد الحديث عن الهجرة مجرد ملف إنساني أو اجتماعي، بل تحول إلى ورقة انتخابية ملتهبة، وساحة صراع إيديولوجي مفتوح، حيث يتقاطع فيها ما هو أمني بما هو اجتماعي، وما هو سياسي بما هو إعلامي.
من إليخيدو إلى توري باشيكو وألكالا دي إيناريس: ذاكرة تتجدد في كل أزمة
في عام 2000، اندلعت احتجاجات عنيفة مناهضة للهجرة في بلدة إليخيدو بإقليم ألمرية جنوب إسبانيا، عقب مقتل ثلاثة إسبانيين على يد مهاجرين مغاربة. آنذاك، تحولت المزارع إلى ساحات مطاردة، والمنازل إلى رماد، بعدما استهدف الغضب العنيف العمال المغاربة الذين لا ذنب لهم سوى أنهم “غرباء”.
واليوم، وبعد ربع قرن، يتكرر السيناريو ذاته في توري باشيكو، حيث أشعل مقطع فيديو يظهر اعتداء قاصرين من أصل مغربي على مسنّ إسباني موجة تحريض وكراهية، سرعان ما التقطتها التيارات المتطرفة وأعادت إنتاجها بصيغة أكثر خطورة، في ظل مناخ سياسي محتقن.
وفي مشهد مشابه، وبالضبط في 28 يونيو 2025، سيزاد هذا التوتر حدة مع ما وقع في ألكالا دي إيناريس بضواحي مدريد، عندما اتهم شاب من مالي، مقيم في مركز استقبال للمهاجرين، بالاعتداء على شابة إسبانية. التهمة وحدها كانت كافية لتفجير احتجاجات عنيفة، قادتها جماعات يمينية متطرفة طالبت بإغلاق المركز، وسط شعارات عنصرية، وهتافات لا تفرق بين مهاجر وآخر، وبين المتهم والبريء.
أمام هذا المشهد المتفجر، لم تقف الصحافة الإسبانية مكتوفة الأيدي. بل سجلت الصحف الكبرى اهتمامًا متزايدًا بهذا التوتر، وسط تحذيرات من تنامي خطاب الكراهية، خاصة في المدن التي تضم كثافة مهاجرين. تعليقات المحللين، ومواقف النشطاء، وتقارير مراسلي الصحف من الميدان، أجمعت على أن العنصرية لم تعد هامشا، بل أضحت جزءا من الجدل العام في إسبانيا المعاصرة.
الهجرة: من قضية اجتماعية إلى سلاح انتخابي
لم تعد الهجرة في إسبانيا مجرد قضية اجتماعية أو اقتصادية، بل تحوّلت خلال العقدين الأخيرين إلى سلاح انتخابي يوظَّف لإعادة تشكيل الخريطة السياسية وشحن العواطف على حساب العقلانية. فقد أظهرت دراسات حديثة (Bakdid Albane et al., 2025) أن قضايا مثل الهجرة باتت إحدى أهم بؤر الاستقطاب في إسبانيا، التي صُنفت إلى جانب اليونان من بين أكثر الدول الغربية انقسامًا. وقد غذّى هذا المشهد صعود أحزاب اليمين الشعبوي، خاصة Vox، التي ضاعفت من حضور الخطاب المناهض للهجرة منذ 2018، مركّزة على تصويرها كتهديد للهوية والثقافة والأمن، مما أسس لبيئة انتخابية تقوم على التخويف والتعبئة الهوياتية بدل النقاش حول السياسات والبرامج.
تحت لافتات مثل «أمن الحدود» أو «الحفاظ على الهوية الوطنية»، تتسلل العنصرية إلى صميم السياسات المحلية والوطنية. ويُقدم المهاجر المغربي، الذي يشكل واحدة من أكبر الجاليات غير الأوروبية في إسبانيا، في صورة نمطية تختزله في العنف والتطرف والعبء الاقتصادي، متجاهلين إسهاماته الكبيرة في قطاعات حيوية مثل الفلاحة، البناء، والخدمات (راجع مثلًا تقارير وزارة الإدماج والضمان الاجتماعي والهجرة الإسبانية لعام 2024).
هذا التصعيد الخطابي وجد أرضا خصبة في وسائل الإعلام الجماهيرية، وعلى نحو أشد في الشبكات الاجتماعية، التي تعيد تدوير الصور النمطية وتثبّتها في الأذهان، وفق ما بيّنه Ohme (2021). ولعل الأخطر هو استغلال انزلاقات فردية أو اختلالات سلوكية لدى بعض القاصرين غير المرافقين الذين يعانون من التهميش والفشل التعليمي، لتحويلها إلى ذريعة لتعميم صورة سلبية تمسّ ملايين المغاربة المقيمين في الخارج. بهذه الطريقة، يُختزل مجتمع متنوع ومنتج في قوالب جاهزة، تُستخدم لتبرير سياسات تقييدية، ولنسف عقود من التعايش وتقاسم المصالح بين المهاجرين والدولة المضيفة.
أما نتائج المسوح الميدانية فتوضح كيف يرتبط رفض الهجرة بمستويات استقطاب وجداني أعلى، ما يعزز النزعات الحزبية المغلقة ويجعل الحوار الرصين أكثر صعوبة. فقد أظهر مسح CEMOP (2021) أن الذين يتخذون مواقف متشددة ضد الهجرة يسجلون أعلى معدلات الاستقطاب العاطفي تجاه الخصوم، بينما الذين يتبنون مواقف متوازنة أو إيجابية أقل حدة وجدانيًا. وهكذا، تصبح الهجرة أداة لإعادة رسم الولاءات على أسس الخوف والانقسام، وتتحول التحديات الحقيقية — من التعليم إلى سوق العمل — إلى ثانويات أمام خطاب سهل يُحمل فيه «الآخر» وزر كل الأزمات.
صورة مشوهة… ولكن من المسؤول؟
الحقيقة أن وجود اختلالات سلوكية لدى بعض القاصرين غير المرافقين من أصول مغربية في إسبانيا ليس معطى مُختلقًا؛ إنه نتاج تراكمات اجتماعية واضحة: شباب وجدوا أنفسهم في قلب مجتمع لا يوفر لهم تعليمًا فاعلًا ولا فرصة ولوج إلى سوق العمل، فوقعوا ضحية التهميش وعاشوا في هوامش المدينة، بلا أفق. غير أن المقلق حقا ليس في هذا الواقع بحد ذاته — فهو ظاهرة معقدة تتطلب معالجة اجتماعية وتربوية — بل في الكيفية التي يجري بها تسليط الضوء على هذه الحالات الفردية وعزلها عن سياقها، ثم توظيفها لإنتاج سردية جماعية مشوهة.
هكذا تتحول أخطاء وأزمات حفنة من الشباب المهمشين إلى «بروفة» جاهزة تُعرض في الإعلام وتلوكها الخطابات السياسية الشعبوية لتقديمها كصورة تمثل ملايين المغاربة المقيمين في إسبانيا وأوروبا. وبهذا، يجري اختزال مجتمع كامل، له حضور اقتصادي وثقافي إيجابي موثّق، في نموذج سلبي يستدعى في كل حملة انتخابية لتبرير خطاب التشدد وضبط الحدود. وهو ما حذرت منه الدراسة التي أظهرت كيف يستثمر السياسيون، خصوصًا الأحزاب ذات النزعات الشعبوية، هذه الصور النمطية لصناعة «عدو داخلي» يحشد حوله الرأي العام، ويبرر عبره سياسات تمييزية أو مقيدة للهجرة.
وبهذا المنطق، تنتقل المسؤولية من هؤلاء الأفراد، مهما بدت انحرافاتهم خطيرة، إلى المؤسسات السياسية والإعلامية التي تتلاعب بهذه الصور الجزئية لتعميم أحكام تضر بسمعة الجالية وتنسف مكتسباتها عبر سنوات. فتُزرع بذور الكراهية والرفض الجماعي، ويُغذى الاستقطاب العاطفي، فيما تظل الأسباب الحقيقية — من فشل سياسات الاندماج والتعليم إلى أزمات سوق العمل — مهملة بلا حلول. وهنا بالضبط تكمن خطورة هذا التشويه: أنه يعفي المجتمع والدولة من مسؤولياتهما البنيوية، ويلصقها كلّها بظهر «الآخر» المهاجر.
تحويلات تتراجع وثقة تتآكل
لطالما اعتبر المغرب جاليته في الخارج صمام أمان اقتصاديًا، ومصدرًا حيويًا للعملة الصعبة. غير أن هذا الاعتبار بات مهددًا اليوم أكثر من أي وقت مضى. فقد سجلت تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج انخفاضًا بنسبة 6.2٪ خلال الأشهر الأولى من السنة الجارية، وهو مؤشر لا يمكن فصله عن سياق أوسع من التحديات، يتراوح بين تدهور صورة المهاجر المغربي في أوروبا، وتراجع فرص العمل، وارتفاع كلفة المعيشة. هكذا لم تعد الجالية مجرد خزان اقتصادي، بل تحولت إلى كيان اجتماعي يواجه ضغوطًا يومية، وتضييقات قانونية ورمزية تتهدد استقراره وثقته في بلده الأم.
الحقيقة أن الصورة النمطية للمهاجر المغربي لم تأتِ من فراغ. فهناك فعلاً اختلالات سلوكية لدى بعض القاصرين غير المرافقين، ممن وقعوا ضحية التهميش وخرجوا من منظومات تعليمية مفلسة وسوق عمل مغلقة، فتاهوا في ضواحي مدن أوروبية بلا أفق. غير أن الخطر الأكبر يكمن في توظيف هذه الحالات الفردية لتعميم حكم جماعي ظالم يطال ملايين المغاربة المقيمين في الخارج. الخطاب الشعبوي في أوروبا، مدعومًا بإعلام يبحث عن الإثارة، حوّل هذه الانزلاقات إلى سرديات سياسية تخدم صناديق الاقتراع، وصنع منها صورة مشوهة تُغذي نزعات الكراهية الجماعية وتبرر تضييقات قانونية متزايدة. وهنا يطرح السؤال الصعب: من المسؤول عن هذه الصورة المشوهة؟ هل هم هؤلاء القاصرون وحدهم، أم السياسات الفاشلة في إدماجهم وتعليمهم، أم الأحزاب والإعلام الذي يضخم الظواهر لعزل مجتمعات بأكملها؟
وفي المقابل، يبدو المغرب الرسمي غارقا في سبات عميق. ففي خطابه الأخير، دعا الملك محمد السادس إلى إعادة هيكلة المؤسسات المكلفة بشؤون الجالية، مُعلنا مشروعين أساسيين: مجلس دستوري جديد يمثل مغاربة العالم، وهيئة تنفيذية تحمل اسم المحمدية للمغاربة المقيمين في الخارج. لكن بعد شهور من هذه التوجيهات، ما زالت الأجهزة الحكومية في حالة تململ، وكأن الأمر لا يعني أحدًا. الوقت ليس في صالح الدولة ولا في صالح الجالية؛ فغياب السياسات الاستباقية وتردي أدوات التواصل، خاصة الإعلامية منها، ينذر بأن تتحول هذه الفئة إلى قنبلة اجتماعية صامتة وقضية وطنية مؤجلة.
فمن دون قنوات ناطقة بلغات الجالية، ومحتوى ثقافي يخاطب أبناءهم في لغاتهم وقضاياهم، سيخسر المغرب أبناءه المعنويين، وسيتحول حنينهم إلى الوطن مع مرور الزمن إلى مجرد صورة باهتة على جدران الذاكرة.
من إليخيدو إلى توري باشيكو، ومن ألكالا إلى مراكز الاستقبال في الجنوب، يتكرر المشهد ذاته:
حادث فردي- تحريض جماعي - استثمار سياسي- تطبيع مع الكراهية.
لكن ما لم يتغير، هو غياب رد حازم وشامل من الدولة المغربية، يرقى إلى حجم التحدي.
ليس المطلوب فقط الدفاع عن السمعة، بل عن الحضور، عن الكرامة، عن الجسور التي تربط أبناء الوطن بأصلهم. لأن السؤال الحقيقي لم يعد: كيف نحمي الجالية؟، بل هل تبقّى ما يكفي من الثقة لفعل ذلك؟
وحين نقول الكرامة، فإننا نقصد كرامة الإنسان أيًّا كانت هويته، لأن الدفاع عن كرامة المواطن المغربي في المهجر لا ينفصل عن احترام كرامة المواطن الإسباني أيضًا. فمواجهة الكراهية لا تكون بالإنكار أو التجاهل، بل بإحقاق العدالة، وإنصاف الضحية، ومحاربة التعميم القاتل الذي يضع الأبرياء في قفص الاتهام. حفظ كرامة المواطن الإسباني هو جزء من معركة المغاربة ضد العنصرية، لأن الأمن المشترك لا يقوم إلا على الاحترام المتبادل، والحقوق المتساوية، لا على الانتقام الجماعي أو التحريض الأعمى.
عمر لمغيبشي
أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني-الدار البيضاء
07 juin 2025 - 20:00
10 mars 2025 - 20:00
04 août 2024 - 20:00
05 janvier 2024 - 12:00
19 décembre 2023 - 12:00
04 juillet 2025 - 13:00
10 juillet 2025 - 14:00