صحيح أن نظرية المؤامرة، أو ما يُعرف بـ"الذهنيّة التآمرية"،ليست أمرًا محمودًا، بل كثيرًا ما تكون ذريعة لطمس الحقيقة أو عائقًا أمام الفهم العقلاني للوقائع. لكن من الصحيح أيضًا أن المناورات والعمليات الموجهة والتلاعبات الإعلامية والسياسية تقع بالفعل، لأسباب متعددة، ولأهداف قد تكون واضحة أحيانًا أو مبهمة في أحيان أخرى.
بمعنى آخر، اختزال كل شيء في "مؤامرة" هو تبسيط ساذج لا يخدم أحدًا، لكنه ليس مستبعدا في أحيان كثيرة عن الواقع. بل إن وجود أجهزة الاستخبارات، بل وحتى مكاتب الاستخبارات الاقتصادية الخاصة، إنما وُجد تحديدًا لمواجهة هذا النوع من التحركات والتهديدات.
من هذا المنطلق ليس من المبالغة القول إن هناك من يسعى، بدوافع خبيثة أو لأهداف محددة، إلى تنفيذ حملات تضليل، وتشويش، وزعزعة استقرار ممنهجة.
أينما كانوا وأياً كانت دوافعهم
لقد تعرض المغرب، خلال السنوات الأخيرة، وخاصة خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، لهجمات متكررة ومنظمة، بعضها بأسلوب فوضوي مباشر. أتذكرون حملة المقاطعة الشهيرة عام 2018، التي استهدفت ثلاث علامات تجارية معروفة في البلاد؟ حتى اليوم، لا نعرف الكثير عمّن كان يقف وراءها، رغم أن شخصيات سياسية من الصف الأول حينها قالت إنها "تعلم الحقيقة".
تلتها موجة أكثر حدّة، بعد أن ظهر على الساحة عدد متزايد من "اليوتيوبرز" الذين يهاجمون الجميع دون استثناء، لكن تركيزهم الأكبر انصبّ على المسؤولين الأمنيين، وعلى رأسهم المدير العام للأمن الوطني ومديرية مراقبة التراب الوطني، عبد اللطيف الحموشي، هذا المسؤول الرفيع، بحكم موقعه ومكانته بات الهدف المفضل للشائعات، والإشاعات، والتضليل، بل وحتى التهديدات، كل شيء مطروح على طاولة الاستهداف: عائلته، كفاءته الشخصية، شائعات حول صراعات مزعومة مع رؤسائه، بل وتخيلات عن "انقلابات داخلية"...لقد أصبح الحموشي محورًا لسهام هجومية خبيثة.
لكن رغم كونه "الهدف المفضل"، فهو ليس الوحيد. وهنا، لا بد أن نطرح السؤال الجوهري: هل نحن فعلًا أمام فوضى فردية غير منظمة؟ أم أن ما يجري هو عملية مدروسة، منسقة، وموجهة؟ لننظر إلى تسلسل الأحداث.
بداية، ظهر "يوتيوبرز" مجهولو الهوية، في دول عدة، يروّجون لروايات عبثية عن الجهاز الأمني المغربي وقياداته. روايات بلا أدلة، تُبنى على إشاعات خبيثة، يُعاد تدويرها حتى تصبح "حقائق افتراضية" في الوعي الجمعي. ثم انتقل الأمر إلى طور أكثر احترافية: مجموعة قراصنة تُطلق على نفسها اسم "JabarootDZ"، قبل أن تتخلى عن "DZ" لاحقًا.
اتبعت هذه المجموعة نمطًا كلاسيكيًا في اختراق الوعي العام: تبدأ بتسريبات يمكن التحقق منها — بيانات بسيطة لكنها صحيحة — لبناء الثقة. ثم في المرحلة الثانية، تُطلق ما هو أكثر إثارة، مزيج من الوقائع والمزاعم، يستهدف مشاعر الناس وعواطفهم. وأخيرًا، بعد أن تكون قد حصدت جمهورًا ومصداقية، تبدأ الهجوم الحقيقي، بتقديم "معطيات" على أنها وقائع دامغة، رغم أن بعضها مختلق أو مفبرك.
حاليًا، تتمحور استراتيجيتهم حول ضرب وحدة الجهاز الاستخباراتي، عبر زرع الشكوك وإثارة العداوات الوهمية بين أجنحته، والرهان على تفكيك بنيته الداخلية، تلك التي لا تقوم منظومة أمنية فعالة دونها.
وكما يقول المثل الإعلامي: "كلما كانت الكذبة أكبر، كان تصديقها أسهل". وهذا ما تُراهن عليه هذه الجهات.
لذلك، وفي ظل هذا التصاعد المقلق للهجمات على البنية التحتية المعلوماتية للدولة، لم يكن من قبيل الصدفة أن يُعيّن الملك محمد السادس، خلال هذا الأسبوع، جنرالًا جديدًا على رأس المديرية العامة لأمن نظم المعلومات (DGSSI)، في رسالة واضحة للغاية الرد سيكون بحجم التحدي.