مواطن
عزيز بوستة
في غضون أسابيع قليلة، قلب "دونالد ترامب" موازين النظام العالمي رأسًا على عقب، واضعًا حدًا لما استقر عليه العالم منذ 75 سنة. تحالفات تتهاوى، قواعد تُكسر دون أن تُستبدل بأخرى، ومشهدٌ دولي يعاد تشكيله بسرعة مذهلة، لكن وسط هذه الفوضى، يبقى السؤال المحوري هو كالتالي : هل أدرك المغرب حجم هذا التحولات؟ وكيف سيتفاعل معها ؟.
الأمور تثير القلق، فإجمالًا أمريكا ترامب، بقراراتها المتقلبة، تبدو كقوة لا يمكن التنبؤ بها ما يجعلها شريكًا غير مضمون بل يمكن أن تشكل خطرًا محتملاً على المغرب، بينما تواصل أوروبا، كعادتها لعبتها المعتادة مع المغرب بمزيج من الوعود والشروط، دون رؤية استراتيجية واضحة. أما الجار الجزائري، فهو مستعد لفعل أي شيء لإلحاق الضرر، في حين تظل مؤسساتنا الحكومية والحكامة ضعيفة.
تظهر العديد من المؤشرات أن الأمور تتغير من حولنا، وأن الأساليب التقليدية في التعامل لم تعد ناجعة كما كانت في السابق، بل إنها لم تعد فعّالة كما كان متعارفا عليه، إذ تترسخ توازنات جديدة تثير حالة من عدم اليقين، وتجعل من الضروري تغيير نهجنا بشكل جذري. غير أن الوقت يضيع أمام التهديدات المتربصة بنا، في عالم يقوده ترامب بسرعة فائقة، لأنه، ببساطة، لا يملك الوقت لإضاعته.
1/ الجزائر:
لا ينبغي أبدًا التقليل من شأن الخصم؛ فقد ترددت الجزائر الرسمية لفترة بين ولائها التاريخي لروسيا ومصالحها المحتملة مع الغرب، قبل أن تخدمها الأقدار. فبوتين يقترب بالفعل من واشنطن، والاثنان الآن في مواجهة مع أوروبا، التي تسعى الجزائر إلى الابتعاد عنها تدريجيًا. لذلك، تكثف الجزائر جهودها وتبذل كل ما في وسعها للتقرب من أمريكا ترامب، دون خوف من إغضاب بوتين. ومع ذلك، نحن نعلم أن أولويتها، وهوسها، هو المغرب. فماذا سيحدث في الأشهر المقبلة عندما تتضح الأمور وتترسخ؟
2/ الاتحاد الأوروبي:
يتحدث الاتحاد الأوروبي عن المغرب كشريك متميز وركيزة أساسية لجناحه الجنوبي وحليف استراتيجي، ويُغدق عليه بالكثير من العبارات الدبلوماسية الودية. لكنه في المقابل، لا يتوقف عن توجيه الطعنات، تارةً من خلال التشكيك في الاتفاق الفلاحي واتفاق الصيد البحري، وتارةً عبر إثارة الجدل حول جودة الفوسفاط، أو فرض قيود مصرفية، أو مراجعة الرسوم الجمركية، مستمرًا في اللعب على وتر التنافس المغربي-الجزائري.
يدّعي أن المغرب شريك مميز وركيزة أساسية لجناحه الجنوبي وحليف استراتيجي، لكنه يوجه له الضربات واحدة تلو الأخرى: تارةً في الاتفاق الفلاحي والصيد البحري، وتارةً عبر إثارة الجدل حول جودة الفوسفاط، أو فرض قيود مصرفية، أو مراجعة الرسوم الجمركية، مستمرًا في اللعب على وتر التنافس المغربي-الجزائري.
كما أن الدول الأوروبية ما زالت تتعامل بانقسام وتردد فيما يتعلق بسيادة المغرب على صحرائه، فتارة تتخذ مواقف داعمة، وتارةً تلتزم الصمت، وتارةً تلجأ إلى المراوغة. المغرب إذًا حليفٌ لتكتل قاري متشرذم داخليًا، يتظاهر بأنه جبهة موحدة لكنه لم يتعافَ بعد من تخلي ترامب عنه، ويرفع شعار الخوف من روسيا، ويدعو إلى الوحدة العسكرية، ويتحدث عن التقارب مع "امتداده الطبيعي" في إفريقيا، لكنه لا يملك الإرادة أو الأدوات لتحقيق ذلك.
أوروبا قارة هشّة من الداخل، وغير موثوقة من الخارج. فهل يمكن للمغرب حقًا أن يعوّل عليها؟
3/ أمريكا في عهد ترامب
سنة 2020، وفي اللحظات الأخيرة من ولايته الأولى، وقّع دونالد ترامب الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، معترفًا بسيادة المملكة على كامل ترابها. لكن ذلك كان قبل أربع سنوات ونصف، وهي فترة طويلة بالنسبة لرجلٍ اعتاد تغيير مواقفه خلال 48 ساعة. واليوم، في ظل الأزمة التي تعيشها إسرائيل، وسعي إدارة ترامب الجديدة لإيجاد مخرج للفخ الجيوسياسي في الشرق الأوسط، ووجود المغرب على خط هذه التوازنات، يجب على المملكة أن تتوقع كل السيناريوهات وتستعد لها، بما في ذلك احتمال تعرضها لضغوط لتعليق شراكتها مع الصين.
بمعنى آخر، يواجه المغرب بيئة جغرافية واستراتيجية شديدة التعقيد، تجعله، أكثر من أي وقت مضى، أشبه بجزيرة سياسية محاطة بعدد من الخصوم أكثر من الحلفاء. وكعادته، يلتزم الصمت، لكن من المنطقي افتراض أنه يعمل على استباق ما هو قادم، لأن التغييرات التي يشهدها النظام العالمي الجديد، رغم غموض قواعده ستفرض نفسها على الجميع، ولن يكون المغرب استثناءً.
المغرب بين رافعتين استراتيجيتين
يمتلك المغرب رافعتين أساسيتين يمكنه الاعتماد عليهما في مواجهة التحديات العالمية المتسارعة.
أولاهما، جاليته في الخارج، التي أصبحت أكثر قوة وتأثيرًا، وأكثر حضورًا في جميع أنحاء العالم، وأكثر تكوينًا واندماجًا في مجتمعاتها. هذه الجالية، التي يزيد عددها على ستة ملايين فردا، يمكن أن تشكل أحد أكبر أصول المغرب إذا ما تم استثمارها بالشكل الصحيح. ورغم دعوة الملك مرتين إلى وضع آليات جديدة لإدارة العلاقة مع هذه الفئة وتعزيز دورها، إلا أن الحكومة لم تحقق أي تقدم يُذكر. إن إبقاء هذا المورد البشري معطلاً هو إضاعة لفرصة ثمينة وتأخير لا يخدم مصالح البلاد.
أما الرافعة الثانية، فهي المؤسسات المنتخبة، التي رغم وضوح هياكلها وأدوارها، لا تعمل بالكفاءة المطلوبة. الجميع يدرك مكامن الخلل: غياب الفعالية، ضعف الشفافية، انعدام الرؤية الاستراتيجية، وأغلبية حكومية تبدو أكثر هشاشة مما تبدو متماسكة. مؤسسات كهذه لا يمكنها تعزيز موقع المغرب في العالم أو توفير آليات لاتخاذ القرار الحاسم. فبدل أن تكون أدوات لإدارة الأزمات والتعامل مع التحديات، تحوّلت إلى ساحات لتدبير اليومي والاستعداد الانتخابي المستمر، في مشهد يغلب عليه منطق المضاربة السياسية.
وفي وقت يزداد فيه العالم اضطرابًا، حيث تسود شريعة الأقوى، يظل المغرب يعاني من إرث اقتصادي يعتمد على الريع، والإثراء غير المشروع، وهيمنة النخب التكنوقراطية والعائلية، وحكومة يفتقر كثير من وزرائها إلى الكفاءة، يقودها رئيس غير مناسب لدوره. لا نبدع، لا نبتكر، ولا نفرض أنفسنا في أي مجال. أما رجال الأعمال، فغالبيتهم إما تجار أو ورثة، لا يغامرون بالاستثمار ولا يساهمون في تطوير اقتصاد حقيقي. أما الكفاءات القادرة على رفع راية المغرب عالميًا، فلا تحظى بالاهتمام إلا كقيمة مالية لا أكثر.
ربما يكون المغرب قد أدرك أن تعزيز دور الجالية المغربية في الخارج وإصلاح مؤسساته هما السبيل الوحيد لمواجهة المستقبل، لكن حتى الآن، لا يبدو أن هناك خطوات ملموسة في هذا الاتجاه. والنتيجة: خسارة مزيد من الوقت في عالم لا يرحم المتأخرين.
ربما يكون المغرب قد أدرك أن هاتين الرافعتين، أي المغاربة المقيمين في الخارج والنجاعة المؤسساتية، يمكن أن تشكلا ردًا مناسبًا أو تفاعلًا ضروريًا مع الاضطرابات المقبلة. غير أن العالم من حولنا يتغير، والتهديدات تقترب، ومع ذلك، لا نرى حتى الآن أي تحرك ملموس لإصلاح أداء مؤسساتنا أو تعزيز دور جاليتنا في الخارج.
وهذا يعني أننا نضيع، مرة أخرى، مزيدًا من الوقت.
عيد مبارك سعيد
31 mars 2025 - 12:00
30 mars 2025 - 19:15
29 mars 2025 - 22:00
29 mars 2025 - 14:00
28 mars 2025 - 15:00