مراد العشابي
يقول مثل إفريقي " كلما رحل شيخ الا واحترقت مكتبة كاملة"، دلالة على ضرورة إيلاء الرواد الأوائل عناية خاصة والدخول في سباق مع الزمن من أجل تحصيل تجاربهم وتدوينها باعتبارها إرثا وطنيا مشتركا، وكم يحز في النفس ونحن نرى اليوم عددا من رواد الفن المغربي وقد دخلوا مرحلة أرذل العمر في صمت، لا يفوقه مرارة سوى سياج الصمت والتجاهل والنكران الذي قال عنه الشاعر طرفة بن العبد"وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند".
وكم كان محزنا وأن ارى الفنان المسرحي نور الدين بكر الذي يعاني بدوره من ظلم ذوي القربى وظلم الجهات الوصية على القطاع وهو طريح الفراش، في صورة مؤثرة للغاية لرائد لم يعد يقوى على النطق لكن عينيه ماتزالا تحتفظان ببريق خاص لمن يتشبث بالحياة رغم كل النوازل والآفات، وكان يتكلم جاهدا كلما سمع حديث حول اهمال الفنانين، في تأكيد صريح لهذه الوضعية الشادة.
وقد اعتبر الفنانون المغاربة على امتداد نصف قرن أن نور الدين بكر يعد بدون منازع الذاكرة الحية للمسرح المغربي في البدايات وحتى الألفية الثالثة، كما كان المرجع الاول لتصحيح المعلومات والمعطيات بالارقام عن المسار المسرحي المغربي وهو الذي دخل في سن مبكرة عالم أبي الفنون على يد رفقة المرحوم الطيب الصديقي وكان بمثابة الدينانو والمايسترو الذي يشرف على الصغيرة والكبيرة لمسرح الناس، ليلتحق بعدها بمسرح الحي، وبعدها كشف عن علو كعبه من خلال عدد من الاعمال التلفزيونية، وكان حين يجلس بالمقهى يتجمع حوله الفنانون والفضوليون لكون الجلسة تتحول الى مسرحية كوميدية مرتجلة أو استذكار لحكايات المسرحيين المغاربة في بداية مشوارهم وسرد تفاصيلها باليوم والساعة نظرا لامتلاكه ذاكرة يقل نظيرها.
والغريب ان بكر ناضل مرارا من إجل دعم الاعمال المسرحية ووضع قانون الفنان والمهن الفنية وبطاقة الفنان والتغطية الصحية، نجده اليوم أول من يكتوي بغياب الدعم والعناية بعد تدهور صحته ومحدودية امكانياته لمواجهة ضرورات الحياة، مكتفيا بعناية افراد اسرته الصغيرة مواساتهم له في هذا الظرف الحرج، وهو يستغرب هجران الخلان والاصدقاء ورفاق الطريق الذين قلما دقوا بابه بعد تدهور حالته الصحية، وقد ظل بكر رغم هذه الضروف يبدي اسفه لتردي حالة ابي الفنون بالمغرب بعد أن أصبح عاجزا عن اخراج الجماهير من بيوتها لتقصد امكنة الفرجة المسرحية مستبدلين اياها بالتلفزة ووسائل الاتصال الحديثة، بكر يصح عليه قول "يموت الفقيه وفي نفسه شيء من حتى"، مادام المسرح يسكنه ويسري في دمه الى آخر رمق.
لم يكن بالامر المستحيل على الجهات الوصية والمختصة أن تكرم نور الدين بكر في حياته وتضمن له الرعاية الصحية التي يستحقها عوض تركه معزولا عن العالم في بيته.
ما يصح على نور الدين بكر يصح على العشرات من رواد الفن المغربي الذين يموتون في صمت واجحاف لا يليق ببلد بزخر بالمؤسسات الثقافية و بالنصوص القانونية التي من المفروض أنها وضعت أصلا لحماية الفنان في حياته قبل موته، وضمان كرامته حتى لا يستجدي المحسنين أو يحس بمذلة العوز والحاجة التي تدمي القلوب و تلغي بجرة قلم رصيدا فنيا زاخرا على امتداد عدة عقود من التضحيات الجسام.
لعل الرد سيكون بالإيجاب حين نعاين حجم الإمتيازات والمنح السخية و "الكريمات " المتعددة التي حصدها جيل جديد من أشباه الفنانين ،وبعضهم ما زال يحبو أو يتلمس طريقه بإرتباك ،فيما حساباتهم البنكية أكملت نضحها، نعمة لن يحسدهم أحد عليها شرط أن يكون لها ما يبرر إحرازها عن جدارة و إستحقاق ، وليس عن طريق لوبيات وشبكات زبونية وسبل ملتوية أقرب إلى أساليب التسويق التجاري منها لما قد يحققه النبوغ في المجالات الفنية من مكاسب وأرصدة. والحقيقة أنه ما حدث أن أفلحت أمة تنكرت لماضيها ،ذلك أن ما أبدعه جيل الرواد من فنون هو بمثابة "الصدقة الجارية "حتى لو حاول هذا الجيل اتباع سياسة "شوف وسكت".
11 novembre 2024 - 11:00
07 novembre 2024 - 12:00
01 novembre 2024 - 16:00
29 octobre 2024 - 13:00
25 octobre 2024 - 11:30
07 novembre 2024 - 12:00