الدكتور عمر لمغيبشي
في زمن تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وتتعاظم فيه التحديات المجالية بين المركز والأطراف، يبرز سؤال التنمية كأحد أهم الأسئلة التي تواجه الدولة المغربية الحديثة: كيف يمكن تحقيق تنمية عادلة تشمل جميع المواطنين، أينما وُجدوا، دون أن يبقى التقدم حكراً على المدن الكبرى؟.
لقد أظهرت التجربة أن النمو الاقتصادي وحده لا يكفي ما لم يُترجم إلى عدالة مجالية وإنصاف تنموي، يربط المواطن بأرضه، ويمنحه الشعور بالانتماء والمشاركة في بناء الوطن.
ومن النقاط البارزة في هذا السياق، أن إطلاق برنامج التنمية الترابية المندمجة (PDTI) يتزامن مع قرار الأمم المتحدة القاضي بالاعتراف بالحكم الذاتي للصحراء المغربية، ما يجعل هذا الحكم حلّاً عادلاً ومنصفاً، قادر على تمكين السكان المحليين من المشاركة الفعلية في تدبير شؤونهم، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في هذه الأقاليم، بما ينسجم مع رؤية المملكة في توسيع دائرة العدالة المجالية وإدماج جميع الجهات في المشروع الوطني للتنمية.
1. من التنمية المتمركزة إلى العدالة المجالية
يشهد المغرب اليوم تحوّلاً استراتيجياً في مسار التنمية الوطنية، تحوّلاً يعيد رسم الخريطة التنموية بشكل عادل ومتوازن، بعد أن ظلّت لعقود متركّزة على محور الرباط – الدار البيضاء.
هذا التحول، الذي يندرج ضمن التوجيهات الملكية السامية، جاء ليُصحّح اختلالات مجالية مزمنة عانى منها المغرب العميق، خصوصاً المناطق الجبلية، الواحاتية، والقروية النائية، التي رغم غناها الثقافي والبيئي، ظلت خارج دوائر الاستثمار والبنية التحتية الحديثة.
في الخطاب الملكي أمام البرلمان بتاريخ 10 أكتوبر 2025، أكّد صاحب الجلالة الملك محمد السادس بوضوح أنّ المرحلة المقبلة يجب أن تقوم على جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة، حيث قال: «هدفنا أن تشمل ثمار التقدم والتنمية جميع المواطنين، في كل المناطق والجهات، دون تمييز أو إقصاء».
ويُبرز هذا الخطاب التوجّه نحو عدالة مجالية حقيقية، تجعل التنمية شاملة ومنصفة، وتمنح كل جهة مكانتها في المشروع الوطني، بعيداً عن المركزية الإدارية والتخطيط العمودي.
إنّ هذه المقاربة الجديدة تعبّر عن إرادة سياسية قوية لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجال، بين المواطن ومكان عيشه، من خلال خلق توازن حقيقي بين الجهات، وتثمين الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل منطقة، بما فيها الأقاليم الجنوبية، حيث يشكل الحكم الذاتي حلاً عادلاً ومنصفا، يضمن إدماج السكان المحليين في صنع القرار والتنمية على أسس شفافة ومستدامة.
2. برنامج التنمية الترابية المندمجة (PDTI): من التخطيط المركزي إلى المقاربة التشاركية
يُعدّ برنامج التنمية الترابية المندمجة (PDTI) ثمرة هذا التوجّه الاستراتيجي الجديد، وإطاراً عملياً لترجمة الرؤية الملكية على أرض الواقع.
فهو برنامج وطني يعتمد مقاربة تشاركية ومندمجة، تسعى إلى بناء مشاريع تنموية تنبع من حاجات الساكنة المحلية، وتُراعي خصوصيات كل مجال ترابي، بدل فرض نماذج جاهزة من المركز.
يهدف الـ PDTI إلى إرساء نموذج جديد للتخطيط الترابي يقوم على:
-تشخيص دقيق للواقع المحلي في كل جهة وإقليم؛
-تحديد الأولويات التنموية بناءً على الإمكانيات والخصوصيات؛
-تعبئة الموارد البشرية والمالية من مختلف القطاعات؛
-تنسيق العمل بين المؤسسات الجهوية والمحلية والمركزية؛
-ضمان استدامة المشاريع ومتابعة أثرها على حياة المواطنين.
ويُركّز البرنامج على خمسة محاور أساسية:
- تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية من خلال مشاريع القرب والبنية التحتية الأساسية.
- تثمين الموارد المحلية (الفلاحة الواحاتية، الحرف التقليدية، السياحة الجبلية والإيكولوجية).
- تحسين جودة الحياة والخدمات العمومية في الصحة والتعليم والماء والطرق.
- تحفيز التشغيل والاستثمار المحلي مع دعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة.
- حماية البيئة والموارد الطبيعية ومواجهة آثار التغيرات المناخية.
ومن أبرز مميزات الـ PDTI تركيزه على المناطق الجبلية والواحاتية، والأقاليم الجنوبية، التي تمثل نحو ثلث مساحة المغرب، وتُعتبر خزّاناً بيئياً وثقافياً مهماً.
فالبرنامج لا يقتصر على البعد الاقتصادي، بل ينفتح على الأبعاد البيئية والثقافية والاستراتيجية، من خلال الحفاظ على الواحات، تشجيع السياحة الإيكولوجية، وتطوير البنية التحتية في الأقاليم الجنوبية لضمان إدماجها في المشروع الوطني، بما يتوافق مع الحكم الذاتي كحل عادل ومنصف للأقاليم الجنوبية، يعزز مشاركة السكان في التنمية والقرار المحلي.
يمثل برنامج التنمية الترابية المندمجة (PDTI) أكثر من مجرد خطة عمل أو وثيقة تقنية؛ إنه تحوّل في فلسفة الدولة تجاه مجالاتها الطرفية، وتأكيد على أن العدالة المجالية ليست شعاراً سياسياً، بل حقاً تنموياً يضمن الكرامة والإنصاف لكل المواطنين.
وبينما يواصل المغرب مسيرته نحو تحقيق التنمية الشاملة، فإن نجاح هذا البرنامج سيقاس بمدى تحسين جودة الحياة في القرى والجبال والواحات والأقاليم الجنوبية، وبمدى إشراك المواطنين في صنع مستقبل مجالاتهم المحلية.
فمن خلال تفعيل الجهوية المتقدمة والاعتماد على المقاربة التشاركية، يتجه المغرب بخطى ثابتة نحو بناء نموذج تنموي يوازن بين المركز والأطراف، وبين النمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي، ويعزز شرعية الحكم الذاتي للصحراء المغربية كحل عادل ومنصف عبر التنمية الواقعية والمستدامة.
وكما قال جلالة الملك محمد السادس نصره الله: «لا يمكن تحقيق تنمية ترابية منسجمة، بدون تكامل وتضامن فعلي بين المناطق والجهات».