بقلم: د/ خالد الإدريسي
يعتبر العلامة ابن خلدون أحد أهم المفكرين المسلمين في عصره و الذي عمل على ترسيخ مبادئ جديدة في علم السياسة و علم الاجتماع و علم التاريخ كانت و لا تزال مرجعا أساسيا و مهما لكل الباحثين في هذه المجالات و لا سيما على مستوى نشأة الدولة و تطورها و أسباب هذه النشأة و مراحل التطور الذي تعيشه و أيضا أسباب الاندحار و السقوط التي يمكن أن تصل إليه هذه الدولة .
و قد استند العلامة ابن خلدون في تحليله لأسباب نشوء الدولة و قوتها بالأساس إلى وجود عصبية أو نعرة تتألف بين ذوي الأرحام و أهل القربى من أجل التضامن في حماية بعضهم البعض ، و هي المحرك الأساسي للتعبئة و للالتفاف الذي كان يتم بين أعضاء القبيلة و التي تحفزهم على وحدة الهدف و على الانضباط و التضحية من أجل هذا الغاية ، والذي هو في نهاية المطاف هو الوصول إلى السلطة و تأسيس دولة يكون عمودها و مركزها هم أبناء القبيلة التي تولدت فيها تلك النعرة أو العصبية .
و على سبيل المثال فإن العصبية القبلية لقبيلة قريش كانت أهم محدد لظهور الدولة الإسلامية بعيدا عن الاعتبارات الدينية و العقائدية ، و لذلك فإن الرسول عليه الصلاة و السلام و الخلفاء الراشدين و من بعدهم من حكام و خلفاء كلهم كان لهم أصل قريشي ، كان هو السبب في توليهم سلطة الحكم و في قوة الدولة و هيمنتها السياسية و العسكرية . و نفس الأمر تأكد مع حالات نشوء دول أخرى عبر التاريخ و الذي في الغالب كانت عصبية قبلية واحدة هي أساس وجودها و قوتها .
هكذا يتبين إذن أن العصبية هي المفهوم المركزي لدى ابن خلدون من أجل تحقيق السلطة و القوة في المجال السياسي ، و العصبية باعتبارها مصدر للتماسك الاجتماعي تنبني على عدة أسس وروابط متعددة ، قد تكون مؤسسة على رابطة الدم كما لاحظنا مع قبيلة قريش التي حكمت الدولة الإسلامية ، أو رابطة الدين كما هو الحال في دول انبتت على أساس ديني محض ، أو رابطة العرق الواحد التي تعتبر أساس الحكم في بعض الدول و التي تحارب بناء عليها باقي الأعراق بل تقوم بمحاولات لإبادتها في بعض الأحيان . ناهيك عن روابط أخرى يمكن استعمال القياس لتحديدها لتعلقها بمفاهيم حديثة كمفاهيم الوطنية و الانتماء العكسري التي أصبحت أساس الحكم في الكثير من الدول الحديثة .
و إذا أردنا تبسيط مفهوم العصبية فإنه يمكن القول على أنه ذلك الرابط العضوي و النفسي و التاريخي و الحاضر و المستقبلي الذي يجمع بين أعضاء جماعة معينة ، و الذين يستغلون هذه العصبية من أجل فرض هيمنتهم و تقوية مواقفهم و مركزهم في مواجهة باقي الجماعات المنافسة التي يمكن أن تكون متربصة بهم و تحاول إضعافهم أو القضاء عليهم بصفة نهائية .
و يمكن أن نسقط مفهوم العصبية الذي أسسه العلامة ابن خلدون على مهنة المحاماة ، و ننقله من مفهومه السياسي إلى مفهومه المهني ، لا سيما إذا اعتبرنا أن الرابطة المهنية الموجودة بين رجال و نساء الدفاع و ذلك المصير المشترك المبني على تاريخ و حاضر و مستقبل واحد ، هي بمثابة مفهوم جديد للعصبية وفق المفهوم الخلدوني ، و بالتالي يمكن أن تكون أساسا قويا و محوريا من أجل تحقيق قوة مهنة المحاماة عن طريق ترسيخ حريتها و استقلاليتها و حصانتها ودورها الأساسي في حماية الحقوق و الحريات و مناهضة الظلم بجميع أنواعه و درجاته . لا سيما إذا جزمنا أن سبب الضعف و الأزمة التي تعيشها مهنة المحاماة و من خلالها جميع المنتسبين إليها هو غياب هذه العصبية المهنية التي تفرض إحياء قيم التضامن و التآزر و وحدة الصف المهني و إعمال أقصى درجات التنظيم و الانضباط من أجل فرض قوة و هيبة المهنة ليس فقط على باقي الجماعات و المؤسسات المرتبطة بميدان العدالة و لكن أيضا على الدولة و جميع أجهزتها و مؤسساتها .
و غياب هذا المفهوم المركزي هو أيضا الذي ساهم في خسارات متتاليه لمهنة المحاماة على المستوى الفردي و الجماعي و أيضا على المستوى الرمزي و المادي ، و خير دليل على ذلك الهزائم المتعددة التي تلقتها المهنة على يد عدة فعاليات مرتبطة بها و لا سيما مع وزارة العدل بصفته الجهة الوصية على قطاع العدالة بخصوص الجوانب التشريعية المرتبطة بالمهنة ، و مع القضاء رئاسة و نيابة عامة في إطار موقع المحامي الهزيل في تدبير مرفق القضاء ودور المحامي الضعيف في المحاكم و المساطر القضائية . ناهيك عن الخسائر الأخرى مع مؤسسات و إدارات بعيدة عن مجال العدالة لا سيما مع إدارة الضرائب و مجموعة من الإدارات الحكومية التي ترتبط بها المهنة ارتباطا مباشرا أو غير مباشر .
نعم ، أنا لا أظن فقط , بل أؤكد على أنه لو كان لدى المهنة الحد الأدنى من العصبية المهنية ، بكل ما تحمله من معاني التضامن و الاتحاد و التآزر و الإيمان بوحدة الماضي و الحاضر و المستقبل المشترك ، و بالابتعاد عن الخوف و الجبن و المصالح الضيقة و كل ما يرسخ التفرقة و التشردم ، لكان حال مهنتنا العتيدة ليس كحالها اليوم ، و لما استطاعت الأيادي المتربصة أن تعبث بها و تفرض عليها ما تشاء وقتما تشاء . أكاد اقسم انه لو توفرت بعض من دلالات العصبية في المهنة ، لما استطاعوا فرض قوانين تنقص من حقوق و مصالح المهنة و تعدم حصانتها و تضعف من دورها في المساطر و أمام المحاكم . بل انه لو توفرت القليل من العصبية المهنية لما استطاعوا أن يرهبوا المهنة و المهنيين في ملف الضرائب ، و لما استطاعوا أن يفقروه بوضع عراقيل لتنفيذ الأحكام و القرارات ضد الدولة في المادة 20 من قانون المالية لهذه السنة .
و لو كانت هناك عصبية لما وجدت الكثير من زملائنا و زميلاتنا يمدون أيديهم من اجل طلب المساعدة لمواجهة ظروف الأزمة الصحية و المهنية المترتبة عن جائحة كورونا .و لذلك فان اعتماد مفهوم العصبية المهنية سيقوي مهنة الدفاع و سيحصنها و يقوي دورها في مجال العدالة ، و لكن التساؤل المطروح هو على أي أساس نستطيع أن نقوي لحمة العصبية لدى المهنيين المنتمين لمهنة الدفاع ؟
بداية لا بد من التأكيد على أن الكثير من الدول القوية و المهيمنة عبر التاريخ ، اعتمدت في عصبيتها إضافة إلى رابطة الدم و القبيلة على أسس دينية من اجل تقوية هذه العصبية في اتجاه تحقيق القوة و الهيمنة . و لذلك يمكن القول أن جماعة المحامين الذي تربط بينهم الرابطة المهنية و هي رابطة أكثر قربا وقوة من الرابطة القبلية ، يمكنهم أن يستمدوا من تاريخ المهنة و أعرافها و تقاليدها ما يمكن أن يكون أساسًا رئيسيا لعصبيتهم و قوتهم ، بشكل يجعل هذا الإطار الأخلاقي و المعنوي المتمثل في أعراف و تقاليد المهنة ، شبيه بالأساس الديني المعتمد عليه في تقوية العصبية لدى الأنظمة السياسية . لا سيما أن أعراف و تقاليد المهنة عبر التاريخ تزخر بالعديد من النماذج المشرفة التي قام فيها رجال و نساء الدفاع بملاحم كبرى أبرزت بالفعل قوة و جرأة و شجاعة مهنة المحاماة ، باعتبارها الحصن الحصين لحماية الحقوق و الحريات و الدفاع عن الحق و نبذ الظلم .
و يمكن أن نستظهر و نستدل على أهمية دور العصبية المهنية في تقوية المهنة و تأثيرها في محيطها ، بمحاكمة زميلنا الأستاذ عبوز الذي تمت متابعته و الحكم عليه بعقوبة حبسية نافذة للزعم بارتكابه جرائم تتعلق بالسب و القذف في مواجهة مسوولين عموميين . و ليس هذا الأمر هو سبب الإشكال ، و لكن هذا الأخير تمثل في تعيين الملف لدى محكمة الاستئناف بسرعة جنونية و قبل انتهاء اجل الطعن بالاستئناف .
و رغم حضور هيئة الدفاع في الجلسة الأولى و طلبها مهلة كافية من أجل إعداد الدفاع تم منحها فقط يومين و التزمت النيابة العامة بإحضاره ضدا عن رغبته و عن رغبة الدفاع و عن إجراءات الحجر الصحي . و التفسير الذي أعطاه الجميع لهذه الواقعة أن هناك نوع من الاستصغار ليس فقط في مواجهة المتهم و لكن استصغار أيضا لزملائه و مهنة المحامين التي ينتمي لها الجميع متهما و أعضاء الدفاع . مما جعل العصبية المهنية تخرج من أجداتها و تساهم في تعبئة أعداد كبيرة من المحامين من جميع الهيئات من اجل الدفاع عن زميلهم و عن المهنة و مواجهة الخروقات التي تجسدت في هذه المحاكمة على مستوى النيابة العامة و قضاء الحكم .
و قد منح هذا التضامن و التعبئة الناتج عن ولادة عصبية مهنية جديدة الكثير من القوة في مواجهة القضاء ، مما جعل ممثل النيابة العامة يعتذر عن هذه الخروقات و يطلب من المحكمة تأخير الملف إلى ما بعد رفع حالة الطوارئ . و هذا الانتصار التاريخي ما كان ليتحقق دون وصول هذه العصبية المهنية لذروتها ، لتعطي رسالة صريحة غير مشفرة أنا مهنة المحاماة قادمة لاسترجاع قوتها و مكانتها و أنها لن تسمح لأي كان أن يفرض عليها أمور تنقص من أهميتنا و مكانتها . و أتمنى أن تبقى دائما هذه العصبية متواجدة و مترسخة من اجل أن تكون القوة الجماعية الضاربة الممثلة للوعي الجمعي لجميع رجال و نساء الدفاع من اجل الضرب بأياد من حديد على كل من تسول له نفسه المساس بالمهنة و بشرفها و قداستها و بحريتها و استقلاليتها .
05 janvier 2024 - 12:00
19 décembre 2023 - 12:00
18 novembre 2023 - 20:00
18 septembre 2023 - 20:00
19 juillet 2023 - 10:00
18 novembre 2024 - 10:00
26 novembre 2024 - 16:00