عزيز بوستة
يقولون إنه بلا رائحة ولا طعم ولا لون، وحتى إنه نصف شفاف... يقولون إنه لا قدرة له على قول الأشياء التي ينتظر الناس سماعها. ومع ذلك، بدأت تتبدّى ملامح أسلوب رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، والذي بدأ يظهر ويفرض نفسه شيئا فشيئا مع الزمن. لكن حظوظه قليلة، بل لا حظّ له، في إثبات وجوده مادامت المقارنة قائمة مع سلفه عبد الإله بنكيران.
في خطاب أخير له، بعث العثماني رسائل، كانت في مجملها تقليدية، لكنها تهمّ للوقوف على أسلوبه الذي بدأت تتضح صورته ويتأكد وزنه.
ففي كلمة ألقاها أمام برلمانيي حزبه، بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الربيعية، والتي تجاوزت الساعة بقليل، كشف رئيس الحكومة عن قدرات خطابية تجمع بين الجد والهزل، بين الاستشهادات والمراجع، بين الشواهد القرآنية والكلام المألوف، وبين اللغة الفصحى والعامية.
يبدو، بالتأكيد، أسلوب العثماني أكثر رقيا وغنى وكثافة من أسلوب بنكيران، لكنه يقل عنه، لا محالة، جماهيرية.
على العثماني أن يأخذ زمام الأمور في حزبه، ويفرض أسلوبه، خصوصا في اتجاه كثيبة النواب والمستشارين البرلمانيين، الذين ما زالت قلوبهم تخفق من أجل زعيمهم السابق، وعليه أن يجذبهم إليه.
على خطيب الزمن الحاضر، وصحّ هذا حتى في الزمن الماضي، أن يعرف كيف يعزف على الأوتار الحساسة، ويدغدغ الأحاسيس، ويثير الضحك أيضا... عليه أن يخاطب أكبر عدد من الجموع بمقاربة وجدانية أكثر منها عقلانية. الحديث يجب أن يتوجه إلى "الشعب"، ويتطرق إلى "العدل"، ويشيد بـ"الوطن"، ويستدعي الأحاسيس الأكثر قوة، وأحيانا يستثير حتى الغرائز الأكثر "انحطاطا"!
لقد استطاع دوغول، وتشرشل في لندن سنة 1940، وهتلر في ألمانيا، ولوثر كينغ في واشنطن سنة 1963، وتاتشر، ويلتسين، وبرلوسكوني، وترامب، وبنكيران أن يحسنوا دغدغة أحاسيس جماهيرهم، حول العظمة والنصر، أو الضعف والخزي...
يحافظ العثماني على تحفّظ المثقف، الذي يتحدث بلغة العقل، ويقطّع جمله بحركات موزونة، وبابتسامة على شفتيه. وبرصانة في حركات يديه وفي مظهره، يسعى لأن يكون أكثر عمقا في حججه، ونافذا في هجوماته، التي يريدها أكثر إقناعا ولكن بلباقة دائمة. لكن، بعد خمس سنوات من "البنكيرانية" في البرلمان، وفي الشارع، وفي التجمعات وغيرها، سيجد الدكتور العثماني عناء في كسب قلوب الناس، وهو يعلم ذلك عليم اليقين، ويتقدم نحو هدفه بخطى ثابتة...
من المثير للاستغراب أنه حتى في صفوف الناس الأكثر عقلانية، والأكثر ثقافة وتعليما، ما زالت شخصية بنكيران جذابة أكثر من شخصية خلفه، حيث يجدون أن "بنكيران يقول الحقيقة"، و"بنكيران كان شغوفا"، و"بنكيران كان مقتنعا بما يقول وكانت لديه الشخصية القوية اللازمة"... لكن بالإنصات، وبكل صبر، للعثماني، نفهم أنه يتوفر أيضا على مزايا، لكنها تحسب له في سجل آخر أكثر اتزانا.
وفي زاوية أخرى للمقارنة بين الرجلين، يقتضيها المقام أكثر من أي شيء آخر، تتعلق بالمرجعية الدينية، نجد أن بنكيران كان يستدعي، بشكل استفزازي، الطابع "الإسلامي" لحزبه بمضاعفة الشواهد القرآنية، وبشكل عدواني، بدون تفسير أو خوض في السياقات وأسباب النزول.
لقد كان بنكيران في وضعية "المحارب" دائما، بخلاف العثماني، الذي يتفادى التأكيد كثيرا على الطابع الديني لحزب العدالة والتنمية، ربما لأنه لم يعد يؤمن بذلك، وعندما يشير إلى القرآن إنما يفعل بلغة المفسّر المجادل، كما هو حاله منذ زمن طويل، على خلاف بنكيران الذي يبدو دائما في جبّة "الداعية".
وحيث يرى بنكيران وحزبه العدوانية لدى قادة الأحزاب الأخرى، يرى العثماني وجزءا من "البيجيدي" تكاملا سياسيا في أفق تجاوز التحديات العديدة والعوائق المختلفة المنتصبة في طريق العمل الحكومي.
بنكيران رجل سياسي يقسّم من حوله، ويجعل البعض ضد الآخر، وينصّب حزبه كما لو كان الوحيد في الحياة السياسية الوطنية، لكن العثماني يجمع من حوله، ويعرف حدوده وحدود حزبه، ولا يُخفي ذلك، بل يسعى إلى تجاوزه.
بنكيران كان رئيس حكومة في حملة دائمة، أما العثماني فهو رئيس حكومة منهمك في العمل...
05 janvier 2024 - 12:00
19 décembre 2023 - 12:00
18 novembre 2023 - 20:00
18 septembre 2023 - 20:00
19 juillet 2023 - 10:00
07 novembre 2024 - 12:00