بقلم : عزيز بوستة
من الصعب اليوم أن نخفي الحقيقة، نحن أمام ما يمكن اعتباره أسوأ حكومة في تاريخ المغرب الحديث. حكومة تجتمعت فيها كل مظاهر سوء التدبير إنطلاقا من تواصلها المرتبك، مرورا بطريقتها الفجة في إدارة المال العام، وفشلها المتكرر في التعامل مع الأزمات.
آخر هذه الإخفاقات، وربما أكثرها رمزية، هو رفض الأغلبية تشكيل لجنة تحقيق برلمانية لتقصي الحقائق حول ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء. لماذا تخاف الأغلبية من التحقيق؟ وما الذي تحاول إخفاءه؟ أليست هذه اللجنة أداة دستورية لتمكين المواطنين من معرفة ما يحدث في الكواليس؟.
في واقع الحال، أن حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي وعد المغاربة بأنهم "يستحقون الأفضل"، يقود اليوم حكومة تزداد سوءًا يوما بعد يوم. يشتغل كـ"جماعة" مغلقة تتحرك برد فعل جماعي أكثر من كونه حزبًا سياسيًا، ويتحصن في صمت مقلق داخل مقرها الرباطي موزعا إشارات التبرم والانزعاج كلما واجه مساءلة أو انتقادًا. أما الحليفان الآخران في الأغلبية، فدورهما لا يتعدى التجميل السياسي. وزراؤهما، وعلى رأسهم الوجوه البارزة داخل الحزبين، يؤدون مهامهم التنفيذية ظاهريًا، لكن صمتهم المتكرر والممتد تجاه التجاوزات والانحرافات يجعل من حضورهم السياسي باهتًا، إن لم نقل متواطئًا، ويهدد بتحويل أحزابهم إلى شركاء في المسؤولية، إن لم يكونوا شركاء في الخطأ.
حين تم التراجع عن مشروع قانون تجريم الإثراء غير المشروع، لاذوا بالصمت. وحين جرى الالتفاف على قانون تضارب المصالح، لم ينبسوا ببنت شفة. وعندما تقرر منع المجتمع المدني من اللجوء إلى القضاء ضد منتخبين يشتبه في تورطهم في قضايا فساد، عادوا للصمت مرة أخرى. وحين طفت إلى السطح ملفات تتعلق باستغلال النفوذ وتضارب المصالح في محيط رئيس الحكومة، استمر الصمت وكأنه سياسة رسمية. وحتى حين حمل التعديل الحكومي الأخير دخولًا مثيرًا للمجموعة العائلية لرئيس الحكومة إلى دائرة المسؤولية، لم يعترضوا أو يوضحوا. والأدهى، أنه بعد الإقرار بخطورة المضاربات في أسعار اللحوم، وبدلاً من دعم مطلب تشكيل لجنة تقصي الحقائق الذي تقدمت به فرق المعارضة، قبلوا بإيعاز إسقاط المقترح من دون أي تبرير للرأي العام.
ماذا سيقولون حين يحلّ موعد الحملة الانتخابات التشريعية لسنة 2026، عندما سيُطلب منهم تبرير صمتهم المطبق أمام الناخبين؟ كيف سيفسرون عدم اتخاذهم أي موقف طوال سنوات، إزاء ما كان واضحًا ومتوقعًا للجميع منذ البداية؟
إن ملف أسعار اللحوم الحمراء، سيكون على ما يبدو العنوان الأبرز الذي سيلازم هذه الحكومة. فالمبلغ الذي جرى رصده أو التنازل عنه من طرف الدولة، سواء في شكل دعم مباشر أو إعفاءات، يُقدّر بـ13 مليار درهم، أي ما يعادل 1.3 مليار دولار، بهدف التحكم في أسعار اللحوم وتجديد القطيع الوطني. والنتيجة؟ الأسعار ما تزال مرتفعة، والقطيع لم يُجدد، مع ما يعنيه ذلك من إلغاء محتمل لعيد الأضحى، بكل ما يحمله من رمزية دينية واجتماعية.
هذا أمر بالغ الخطورة. والكارثة ليست فقط في فشل السياسات المتبعة، بل في رفض الأغلبية البرلمانية تشكيل لجنة تقصي الحقائق التي طالبت بها المعارضة. هذا الرفض لا يعني فقط التغطية على العجز، بل يُجرد المغاربة من حقهم في فهم ومعرفة ما حدث، ولماذا هم محرومون من أحد أكبر شعائرهم الدينية. هذا الرفض، في جوهره، لا يعكس فقط أزمة تدبير ظرفي، بل يكشف عن خلل أعمق يمس صلابة مؤسساتنا، وفعالية آليات المراقبة، ومدى قدرة المعارضة على أداء دورها كقوة تصحيح وتوازن. فحين تُغلق أبواب الحقيقة، يُفتح الباب واسعًا أمام الشك وانهيار الثقة.
وما يزيد الطين بلة، أن رئيس الحكومة، الذي نادرًا ما يخاطب الرأي العام، اختار هذه المرة أن يخاطب أعضاء حزبه ، داعيًا إياهم إلى "الخروج إلى المعركة" ومواجهة المعارضة، متهمًا إياها بأن مطلبها بتشكيل لجنة تقصي الحقائق لا يعدو أن يكون "بوز" سياسي، وهو بذلك يُظهر فهماً ملتبسًا، بل مقلقًا، لطبيعة العمل المؤسسي، وربما حتى الدستوري. فهل هو سوء تقدير؟ أم ضعف في الإدراك السياسي؟ أم لا مبالاة؟ أم ثقة زائدة بالنفس ؟ الأرجح أنه مزيج من ذلك كله.
إن إجهاض مقترح لجنة تقصي ذات طابع ملزم، وتعويضه بمهمة استطلاعية لا تملك سوى طابع استشاري، لا يمكن تفسيره سوى كإهانة للذكاء العام، وتنكُّر لحق الرأي العام وللعملية الديمقراطية برمتها.
ما يضاعف من فداحة الموقف هو انخراط الحزبي الآخرين للأغلبية في هذه "المغامرة" المحفوفة بالشكوك، في تعطيل مسار لجنة تقصي الحقائق البرلمانية حول أزمة اللحوم الحمراء، رغم ما يحيط بالملف من شبهات تضارب المصالح واستعمال غير شفاف للمال العام. فبصرف النظر عن دواعي التضامن الحكومي، فإن انخراطهما في هذا الموقف من دون أن ينجحا، حتى من داخل الأغلبية، في تعديل وجهة القرار أو فرض شروط الحد الأدنى من الشفافية، يمس بصورة الحزبين ويطرح أسئلة جدية حول استقلالية قرارهما السياسي، خصوصا حزب الاستقلال الذي خرج من هذا السياق مضعفًا، لا قويا. إن التذرع بالتضامن الحكومي لا يبرر كل شيء، إلا إذا وُجدت مصالح أخرى غير معلنة، سيكون لزامًا على حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة توضيحها لناخبيهما في حينه.
إننا اليوم أمام حكومة وأغلبية تيغول فيها تضارب المصالح، وتغيب عنها معايير عنها الشفافية والأخلاق السياسية والوضوح في التسيير. لقد عرف المغرب عبر تاريخه الحديث مختلف أشكال الحكومات: سياسية، تكنوقراطية، مختلطة بين الصنفين السابقين، برؤساء حكومات باهتين وأخرى كاريزمية ، ووزراء تفاوتوا بين الكفاءة والارتجال. لكننا اليوم، ومع وجود فريق حكومي يُفترض فيه مستوى عالٍ من الكفاءة التقنية، نجد مؤشرات قوية على تغلغل منطق الزبونية والمصالح الضيقة، ما يجعلها تشكل تهديدًا حقيقيًا للمسار الديمقراطي برمّته. فرفض تشكيل لجنة تقصي الحقائق من طرف أحزاب الأغلبية لا يُعد فقط امتناعًا عن كشف الحقيقة أمام المواطنين، بل يُفهم أيضًا كغطاء سياسي لحماية مضاربين محتملين وعمليات مشبوهة، تُشير عدة مؤشرات إلى ارتباطها بأطر داخل حزب التجمع الوطني للأحرار.بمعنى أوضح، يتم توفير غطاء لمن يُشتبه في تورطه في المضاربة ورفع الأسعار على المستهلك، من خلال رفض كشف الحقيقة وتمكين المواطنين من فهم ما يجري. إنها مفارقة صارخة تضعف الثقة وتُسيء لصورة الديمقراطية. لقد شهدنا نماذج أفضل وأرقى في احترام المؤسسات وحق المواطنين في المساءلة.
يتمتع البرلمان من دون أدنى شك بأداء دوره الرقابي، والمعارضة لا تملك، في حدود ما هو متاح لها، أكثر مما قامت به، ليبقى الأمل معقودًا على الحزبين الآخرين في الأغلبية، الأصالة والمعاصرة والاستقلال لإحداث الفرق ويساهما في هذا الإختبار العسير من أجل تخليق الحياة العامة. فماذا سيجنيان من خدمة مصالح حزب لا يتردد في أقرب محطة انتخابية، في مهاجمتهما بشراسة انتخابية المعهودة وموارده المالية في الأشهر المقبلة؟. إن خدمة الحق والدفاع عن الإنصاف هو ما ينبغي أن يقوما به: فالأصالة والمعاصرة قد يكتسب بذلك شرعية يفتقر إليها، والاستقلال قد يُحافظ على ما تبقى من رصيده الرمزي.
الأسبوع المقبل يفتتح البرلمان دورته الربيعية. فهل نأمل في لحظة صحوة؟ في ومضة كرامة سياسية لدى الأحزاب المشكلة للأغلبية ؟ لعل ما تبقى من ثقة المواطن في المؤسسات يتطلب ذلك وأكثر.
15 avril 2025 - 13:00
15 avril 2025 - 11:00
15 avril 2025 - 09:00
14 avril 2025 - 13:00
14 avril 2025 - 11:15
10 avril 2025 - 12:00